عميد تجارة الأزهر الاقتصاد المصرى فى مواجهة التحديات العالمية والعولمة


بقلم أ . دكتور : محمد يونس عبدالحليم أستاذ الاقتصاد وعميد جامعة الأزهر

والمستشار الاقتصادي بالمركز الدولي للاستشارات الاقتصادية ودراسا الجدوى

مقدمة

  • العولمة حلم إنسانى قديم تطلع إليه الفلاسفة والحكماء والأنبياء، حيث كانوا يأملون فى مبدأ أو عقيدة دينية واحدة:
    • تحرر نفوس البشر من الحدود المحلية والقومية البحتة.
    • تكون متاحة لجميع الناس فى كل مكان.

وبذلك ابتكروا الصلة بين ضمير الفرد والإنسانية كلها.

  • وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المفهوم، حيث حث الناس على أن:
    • يتعارفوا فيما بينهم، بقوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [سورة الحجرات، الآية 13].

  • يتعاونوا على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، بقوله تعالى:

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [سورة المائدة، من الآية 2].

  • مرت العولمة منذ ظهورها بمراحل نشوء وتطور العولمة، اتخذت أشكالا منذ نهاية الثمانينات. وسنتعرض فيما يلى لموضوع العولمة بشىء من التفصيل:

تعريف العولمة:

  • بالرغم من عدم اتفاق المفكرون على تعريف واحد للعولمة إلا أنه يمكن تعريف العولمة فى ضوء التعريف الأكثر انتشاراً كالتالى:

العولمة هى حرية انتقال وتدفق المعلومات ورؤوس الأموال والسلع والتكنولوجيا والأفكار والمنتجات الإعلامية والثقافية والبشر أنفسهم بين جميع المجتمعات الإنسانية.

  • فى ضوء التعريف السابق نجد أن:
    • العالم يتقلص ويزداد اقتراباً وصغراً يوماً بعد يوم.
    • المسافات بين الدول فى طريقها إلى الاختفاء.
    • الأماكن البعيدة أصبحت أكثر قرباً من بعضها.
    • المسافات الجغرافية تتقلص، وتتقلص معها المسافات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.

لذلك أصبحت الحركة بين القارات والمجتمعات أسرع وأكثر سهولة

الثقافات أكثر تأثيرا فى بعضها.

الاقتصاديات أكثر ترابطاً وتنوعا.

وخلاصة القول أن العالم فى عصر العولمة أصبح قرية صغيرة.

قوى العولمة:

قوى العولمة هى مجموعة العوامل التى ساعدت على ظهور بداية عصر العولمة، وشاركت فى إزالة الحدود بين المجتمعات.

  • القوى والعوامل التى ساعدت على ظهور العولمة:
  • ظهور العديد من المخترعات التى ألغت الفواصل الزمانية والمكانية بين البشر، مثل الهاتف، شبكات الانترنت، أجهزة الكمبيوتر، الطائرات الأسرع من الصوت.
  • سيولة تدفق المعلومات عبر شبكات الانترنت بين قارات العالم، جعل بإمكان أى فرد فى أى بقعة من العالم أن يترك مجتمعه المحلى ويصبح عالمياً حيث يمكنه عبر شبكات الانترنت:
    • معرفة الأحداث فى نفس لحظة وقوعها.
    • التسوق عبر هذه الشبكات (التجارة الالكترونية).
  • ظهور الاتفاقيات الدولية مثل:
    • اتفاقية إنشاء الأمم المتحدة.
    • اتفاقية صندوق النقد الدولى.
    • اتفاقية الجات حيث أكد الموقعين على هذه الاتفاقية عزمهم على تحقيق انسجام أكبر على المستوى العالمى للسياسات المتبعة فى الميادين التجارية والنقدية والمالية، وذلك لتحقيق العولمة الاقتصادية.

مظاهر (مجالات) العولمة:

  • للعولمة عدة مظاهر (مجالات) منها:
  • العولمة الاقتصادية وهى أكثر مجالات العولمة وضوحاً واكتمالاً.
  • العولمة الثقافية.
  • العولمة السياسية.

وفيما يلى توضيح لكل من هذه المجالات:

 

العولمة الاقتصادية العولمة الثقافية العولمة السياسية
المقصود بها    
* تقارب وتداخل اقتصاديات العالم.

* بلوغ العالم مرحلة الانتقال الحرب لرأس المال والسلع والخدمات التى أصبحت تتدفق عبر الشركات الدولية الكبرى.

* انفتاح الثقافات على بعضها.

* بلوغ البشرية مرحلة الحرية الكاملة لانتقال الأفكار والاتجاهات القيمية والسلوكية والمعلومات والبيانات والأذواق بأقل القيود السياسية والجغرافية التقليدية.

* الانتشار الحر السريع للأخبار والأحداث والقرارات والتشريعات والسياسات على المستوى العالمى.

* انحسار السيادة القومية وسقوط الحدود الجغرافية.

نتائجها    
* فقد الدول السيطرة على اتجاهات الأوراق المالية والتجارية العالمية. * ربط العالم بقيم وسلوكيات وعادات مشتركة تتجاوز الحدود، مما يؤثر على الهوية الثقافية المحلية للدول. * ظهور مجال سياسى عالمى جديد بدلاً من المجال السياسى المحلى، وذلك فى ظل بروز قوى إقليمية وعالمية أصبحت تنافس الدولة، وتسعى لإدارة شئون العالم مستقبلاً.

ايجابيات وسلبيات العولمة:

  • العولمة كغيرها من الحالات الحضارية – مليئة بالايجابيات والسلبيات.
  • نتيجة لشدة التداخل بين ايجابيات وسلبيات العولمة، اختلفت مواقف المفكرين تجاه العولمة:

فالبعض يدعو للمشاركة فى العولمة للاستفادة من ايجابياتها المعرفية والاقتصادية الواضحة. والبعض الآخر يرفضها من أجل حماية الذاتية الحضارية والهوية الثقافية التى تبدو مهددة من قِبل العولمة.

وفيما يلى أهم ايجابيات وسلبيات العولمة:

ايجابيات العولمة:

  • لأن العولمة ارتبطت بالثورة العلمية والمعلوماتية، فإنها تؤدى إلى فتح مجالات معرفة واسعة أمام البشرية وتمكن جميع الدول من الاستفادة من نتائج الانجازات العلمية والتكنولوجية.
  • لأن العولمة تعنى التدفق الحر للسلع والخدمات، فإنها تُزيد من فرص النمو والرفاهية فى جميع أرجاء العالم.
  • لأن العولمة تعنى التدفق الحر للبيانات والمعلومات والأفكار والمفاهيم (أى اقتراب الثقافات من بعضها). فإنها تسخر ذلك للتعرف على الاختلاف بين الثقافات. احترام الخصوصية الثقافية. تعزيز التنوع الثقافى العالمى.
  • لأن العولمة تعنى بروز نظام عالمى جديد أكثر اهتماماً بـ:
  • قضايا البيئة وحقوق الإنسان.
  • قضايا الانفجار السكانى وتزايد الفقر.
  • إيجاد الحلول للاختلالات الاجتماعية.

فإنها تجعل النظام العالمى أكثر استقراراً وأقل توتراً من النظام العالمى القديم.

سلبيات العولمة:

  • لأن العولمة تعنى مزيداً من تطور الهندسة الوراثية وهندسة الجينات، وتوظيف ذلك التطور تجارياً وعنصرياً وعسكرياً. فإنها تزيد من استنفار (استبعاد) القيم الإنسانية العميقة التى تبدو مهددة فى ظل غياب القيود الأخلاقية على المستجدات فى تكنولوجيا الهندسة الوراثية.
  • لأن العولمة تعنى زيادة توظيف الشركات الاحتكارية لقدراتها المالية والتنظيمية. فإنها تؤدى إلى استغلال هذه الشركات لثروات الشعوب والتغلغل فى اقتصاديات الدول النامية وهذا فى غير صالح الدول النامية.
  • لأن العولمة تتضمن زيادة الفجوة الاقتصادية والحضارية بين الدول الغنية والدول الفقيرة. فإنها تؤدى إلى زيادة غنى الدول الغنية وزيادة فقر الدول الفقيرة.
  • لأن العولمة قد تتضمن هيمنة ثقافة واحدة، فإنها تقوم بتهميش الثقافات الأخرى بمساعدة الوسائل الإعلامية والثقافية التى تبثها الدول المتقدمة وبذلك تُهدد الخصوصية الثقافية للمجتمعات النامية.
  • لأن العولمة قد تتضمن صدام بين الحضارات وصراع المناطق الحضارية المختلفة، فإنها تؤدى إلى حروب عنيفة ودامية وربما أكثر دموية من الحروب التى شهدها التاريخ البشرى.
  • لأن العولمة تعنى المزيد من إحساس الإنسان المعاصر بالغربة عن واقعه وحياته، فإنها تفقد الإنسان السيطرة على التحولات الحياتية والفكرية السريعة فيعجز جهازه النفسى والعقلى عن مجاراة المستجدات العلمية والتكنولوجية.

كيفية تعامل الدول النامية مع العولمة:

  • العولمة ظاهرة غير مكتملة الملامح… لأنها عملية مستمرة تكشف كل يوم عن وجه جديد من وجوهها المتعددة.

والسؤال الذى يفرض نفسه… كيف تتعامل المجتمعات النامية مع العولمة؟

  • ضرورة تعامل المجتمعات النامية مع العولمة وفقاً لمصالحها الوطنية.
  • ضرورة اهتمام المجتمعات النامية بإصلاح أداء أنظمتها الاقتصادية وزيادة إنتاجيتها لخدمة الاقتصاد والمجتمع لتتمكن من مواكبة التطور العالمى والمنافسة العالمية وعدم الاعتماد على المعونات.
  • ضرورة اهتمام المجتمعات النامية بإعادة النظر فى مناهج التعليم والثقافة والإعلام لتحصين مواطنيها ضد هيمنة وسائل الإعلام السائدة التى تمتلكها الشركات العالمية.
  • ضرورة أخذ المجتمعات النامية بوسائل التطور والتقدم العلمى والتكنولوجيا الحديثة القادرة على استثمار الطاقات البشرية والاقتصادية وبذلك يمكنها المساهمة فى بناء الحضارة العالمية.

 

نشوء وتطور العولمة

ويقسم روبرتسون مراحل نشوء وتطور العولمة إلى خمس مراحل هى:

  • المرحلة الجنينية (1400 – 1750): التى شهدت نمو المجتمعات القومية فى أوروبا وإضعاف القيود التى كانت سائدة فى القرون الوسطى، وعمق الأفكار الخاصة بالفرد وبالإنسانية.
  • مرحلة النشوء (1750 – 1870): وهى تلك المرحلة التى حدث فيها تحول حاد فى فكرة الدولة الموحدة، وتبلورت أثناء هذه المرحلة المفاهيم الخاصة بالعلاقات الدولية، وبالأفراد كمواطنين لهم أوضاع مقننة فى الدولة، ونشأ مفهوم أكثر تحديداً للإنسانية، وازدادت إلى حد كبير الاتفاقات الدولية والمؤسسات المتعلقة بتنظيم العلاقات والاتصالات بين الدول، وبدأت مشكلة قبول المجتمعات غير الأوروبية فى المجتمع الدولى، وبدأ الاهتمام يتزايد فى موضوعى القومية والعالمية.
  • مرحلة الانطلاق (1870 – 1920): والتى ظهرت فيها مفاهيم كونية مثل “خط التطور الصحيح”، “والمجتمع القومى المقبول”، وتلك المفاهيم المتعلقة بالهوية القومية والفردية، وتم إدماج العديد من المجتمعات غير الأوروبية فى المجتمع الدولى، وبدأت عملية الصياغة الدولية للأفكار الخاصة بالإنسانية ومحاولة تطبيقها، وهنا حدث تطور كبير فى الأشكال الكونية للاتصال.
  • الصراع من أجل الهيمنة (1920 – 1965): حيث حدثت الخلافات والحروب الفكرية حول المصطلحات الناشئة بعملية العولمة التى بدأت فى مرحلة الانطلاق، ونشأت صراعات كونية حول صور الحياة وأشكالها المختلفة، وتم التركيز على الموضوعات الإنسانية وبرز دور الأمم المتحدة فى هذه المرحلة.
  • مرحلة عدم اليقين (1965 – ؟): وهى المرحلة التى تم فيها إدماج العالم الثالث وتعمقت القيم ما بعد المادية، وانتهت فيها الحرب الباردة وازدادت المؤسسات الكونية والحركات العالمية وتعددت الاعتبارات الخاصة بالجنس والسلالة وظهرت حركة الحقوق المدنية وأصبح النظام الدولى أكثر سيولة، وازداد الاهتمام فى هذه المرحلة بالمجتمع المدنى العالمى، والمواطنة العالمية، وتم تدعيم نظام الإعلام الكونى.

وعلى الرغم من التكامل البين فى النموذج التالى يلاحظ عليه التجريد الواضح إلى حد التطرف، وربطه تاريخ العالم والإنسانية بالتاريخ الأوربى، وحتى إذا ما سلمنا بأن العولمة هى نتاج التطور الرأسمالى الأوروبى الأمر الذى ينطوى على قدر كبير من الصحة فإنه يصعب التسليم بأن مفاهيم الإنسانية والأفراد والثقافة هى محض اكتشافات أوروبية. ويبدو أن الكاتب ينطلق من رؤية متمركزة حول الذات المركزية الأوروبية European centrism ومن جانب آخر يدعى النموذج إدماج العالم الثالث فى المجتمع العالمى من دون أن يبين ماهية الدمج هل هى ثقافية أم اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية؟ بعضها أو كلها؟ بل هى كلها التى تعبر عنها مقولتا الاستعمار والامبريالية الأمر الذى أطنبت كتب التاريخ الحديث فى تناوله. وأخيرا يمكن القول أن هذا النموذج يهمل حقيقة الصراع بين العالم الثالث والبلدان الرأسمالية من أجل فك تبعية الأولى للثانية ولذا فإنه لا يمكن الاعتماد على نموذج روبرتسون كنموذج عالمى، أما إذا نظرنا إليه كنموذج غربى فإنه يبدو فى غاية التكامل وأن الاعتماد عليه يبدو أمرا ممكناً.

الأركان الأساسية للعولمة:

إذا كانت العولمة فى مضمونها العام تعنى انسياب التجارة ورأس المال والمعلومات بحرية عبر الحدود فإن ذلك ينتج عنه بدون أدنى شك أن جميع البلدان المتقدمة والنامية ستقع تحت ضغط شديد لتضمن الوصول إلى الأسواق الأجنبية، وتجتذب الاستثمار المنتج، وتحصل على التقانة العالية بغية الاستفادة من الزيادة المتوقعة فى الإنتاج العالمى، وفرص العمل، والتقدم التكنولوجى. ويصبح القول بوجود ثلاث عوامل وراء عولمة الاقتصاد العالمى وهى:

  • الزيادة الكبيرة فى قيمة التجارة الدولية خلال الأربعين سنة الأخيرة بحيث وصلت إلى 6000 مليار دولار عام 1995 الذى يعادل 14 ضعفاً ما كانت عليه التجارة عام 1950. كما أن نسبتها إلى الناتج المحلى الإجمالى تضاعفت من 7% عام 1950 إلى 15% عام 1974 لتصل إلى 22.5% خلال العقدين الأخيرين. وهذه الزيادات بلا ريب تعكس استمرارية التحرر التجارى العالمى.
  • زيادة تدفق الاستثمارات إلى جميع أنحاء العالم الذى سهلته الشركات متعددة الجنسية والتى أخذت توسع نشاطها بإنشاء فروع لها فى دول كثيرة. وتتسابق الدول الآن لجذب هذه الاستثمارات التى وصلت إلى 3.2 تريليون دولار عام 1996 وتغطى هذه الاستثمارات مجالات واسعة من النشاطات الاقتصادية التجارية والخدمية على حد سواء. ومع أن القسط الأكبر من هذه الاستثمارات يبقى فى الدول المتقدمة، إلا أن دول العالم الثالث بدأت تنال قسماً لا بأس به فى السنوات الأخيرة.
  • ثورة الاتصالات والمعلومات وانتشارها عالمياً، الأمر الذى يقود إلى جعل التطور بلا حدود رغم وجود الحدود السياسية وأصبحت القوة الكامنة فى هذا التطور تنبع من إمكانية اختزال الوقت فبدا وكأن العالم مرتبط بشبكة على درجة عالية من الكثافة.

إن التدويل internationalization المطرد للاقتصاد العالمى يعد أهم بصمات العقود الثلاثة الأخيرة. ويظهر التدويل فى نظرة أولية من خلال تعاظم دور العلاقات الاقتصادية الدولية بالمقارنة مع النشاط الاقتصادى على الصعيد المحلى والقومى، كما يتبدى أيضا فى الدور المتعاظم الذى تقوم به الشركات متعددة الجنسية التى تسيطر على شرط كبير ومتنام فى عمليات إنتاج وتمويل وتوزيع الدخل العالمى. على الرغم من أن هذا الدور قد يتخفى فيصبح من الممكن الحديث عن مستوى اقتصادى عالمى متميز بالياته ومشكلاته وآفاق تطوره على المستويات الوطنية. حتى بات ينظر للعالم باعتباره الوحدة الاقتصادية الأساسية.

البنية المؤسسية للعولمة ودعم التنمية:

يتناول هذا المبحث مناقشة البنية المؤسسية للعولمة، والتى تتوزع ما بين مؤسسات مالية منفذة وداعمة كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى، أو مؤسسات قانونية منظمة، كمنظمة التجارة العالمية، أو مؤسسات مصلحية دافعة كمجموعة الدول السبع الصناعية.

إن أهم ما يميز اقتصاد التسعينات هو تغلغل مؤسسات الاقتصاد المعولم وتنامى قدرتها على توجيه الاقتصادات القومية، وترجيح ميزان القوى لصالح هذه المؤسسات وما تملكه من وسائل للقيام بترتيبات غير عادية، ملقية اللوم على الحكومات والبنوك المركزية بسلوك سياسات تتنافى وقيم التنافس الحر، و/ أو بانتهاج طرق تتضارب مع متطلبات العولمة من ليبرالية وخصخصة… بل نجد المؤسسات الاقتصادية الدولية تهتم بقضايا غير اقتصادية من قبيل التمثيل السياسى، وحقوق الإنسان… وذلك لتمرير وتنفيذ إجراءات قد لا يتماشى ومصالح الأقطار المنفذة فيها السياسات التى تطلع تلك المؤسسات بتخطيطها وتنفيذها. إن المؤسسات الدولية تجد مكانها فى بنية الاقتصاد المعولم فتوظفها الدول الرأسمالية لغرض الرقابة على العلاقات بين العالم المتقدم والعالم الثالث وإخضاعها لمنطق الرأسمالية فهى تفرض اللبرلة، إدارة تعويم الصرف، ضمان خدمة الدين الخارجى، عمليات الخصخصة، ووظائف مشروع الجات، فى إطار دور يتنافى مع خطابها الأيديولوجى (تحرير التجارة).

مؤسستا بريتون وودز brotton woods foundations:

قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحديداً فى تموز 1944 اجتمع ممثلو 44 دولة فى مدينة بريتون وودز فى new Hampshire بالولايات المتحدة فى مؤتمر دولى تمخض عنه تأسيس صندوق الدولى IMF والبنك الدولى للإنشاء والتعمير IBRD وقد جاء ذلك انعكاساً للظروف والمتغيرات التى طرأت على النظام الدولى الذى شكلته إفرازات فترة ما بعد الكساد العظيم وأجواء الحرب العالمية الثانية وقد تمثلت هذه المتغيرات فى فوضى النظام الدولى التى سادت ما بين الحربين، القيود التى فرضت على المدفوعات الخارجية والتجارة الدولية، حرب التخفيضات التى نشبت بين عملات الدول وما نجم عنه من ركود فى حركة التجارة ورؤوس الأموال وتعقد علاقات المديونية. ولذلك برزت الحاجة إلى إقامة مؤسسات دولية لدعم التنمية وتفادى المشكلات المالية والنقدية والتجارية والمساعدة فى إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية.

إن النظام المقترح لمؤسستى بريتون وودز فى الواقع يعكس قوة وهيمنة الاقتصاد الأمريكى على هذا النظام الذى رأت فيه نظاماً يضمن العمل على إلغاء القيود على المدفوعات الخارجية، والتوصل إلى نظام متعدد الأطراف للمدفوعات، وليس نظاماً لتوفير السيولة الدولية فحسب. فعكست اتفاقية التأسيس الاستثمار الذكى لموقع القوة الذى تمتعت به الولايات المتحدة كى تفرض مشروعها التى تقدم به هارى هوايت بدلا من مشروع جون مينارد كينز الذى كان يعبر عن المصالح الأوربية. أما دول العالم الثالث فحاضرها كان غائباً، وغائبها كان عبارة عن مستعمرات. ولهذا فإن نظام بريتون وودز أبدا لم يكن يعبر عن مشاكل هذه الدول، إذ لم يضع ضمن أهدافه قضايا التنمية، والمدفوعات الدولية لهذه المجموعة من الدول ولا مساعدتها فى تسوية حقوقها لدى دائنيها المستعمرين آنذاك.

إن مسئولية البنك الدولى قد انحصرت فى تمويل التنمية الاقتصادية وقد قدم أولى قروضه فى أواخر الأربعينات لغرض تمويل عملية إعادة تعمير الاقتصادات التى خربتها الحرب فى أوربا الغربية. أما صندوق النقد الدولى فقد كان هدفه مختلفا عن ذلك، إذ أنشئ كمؤسسة تعاونية طوعية تجتذب إلى عضويتها تلك الدول المستعدة بروح المصلحة الذاتية، للتعهد بنبذ الممارسات الضارة بالصالح الاقتصادى لسائر الدول الأعضاء، غير أن ما بين هاتين المؤسستين كان وما يزال هناك تعاون وثيق، تعمق فى ظل التركيز على عمليات الإصلاح الاقتصادى بما أدى إلى تقارب كبير فى جهود البنك والصندوق معاً.

وفى عام 1988 ابتدع الصندوق ما يسمى بفروض التكيف الهيكلى التى تستهدف تكييف اقتصاد البلد المدين طبقاً لحاجات ورؤى الجهات الدائنة أملا فى استرداد الديون وإدماج البلدان المدينة فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى، وبداء من هذا العام، وتحت إشراف الصندوق ودشنت بلدان أوربا الغربية عمليات تحرير اقتصاداتها فقد حررت فى ظله كل من فرنسا وايطاليا أسواق النقد والمال عام 1990، كما مثل صندوق النقد الدولى الوسيلة المثلى لتنفيذ التحرير فى باقى دول العالم.

إن صندوق النقد الدولى يعتبر اليوم، ومن دون منازع أقوى مؤسسة دولية فى العالم، فهو يقف فى مكان الصدارة بين مؤسسات الاقتصاد المعولم ويعود النمو المطرد فى قوة الصندوق إلى:

  • ضخامة موارد الصندوق التى تقدر بحوالى 200 مليار دولار عام 1994 تتأتى من اكتتابات الحصص، ومن رسوم العضوية التى يدفعها الأعضاء الـ 173 فى الصندوق.
  • قيام الصندوق بأداء وظيفته بدقة وفعالية مذهلة وتوليه حماية المصالح المالية للدول الرأسمالية، وخصوصا حماية ديون المصارف الاحتكارية بما يتناسب مع رغبات هذه الدول والمصارف، الأمر الذى دفع باتجاه تقوية أجهزته ودعم موارده وجعله أغنى الهيئات الدولية على الإطلاق.

وتأسيسا على الدور الحيوى الذى يقوم به البنك والصندوق الدوليان مؤسستين من مؤسسات الاقتصاد المعولم يعتقد البعض أن بدايات ظهور العولمة يتزامن مع تأسيسهما، فقد عملت هاتان المؤسستان على دعم كل التوجهات التى من شأنها عولمة الاقتصاد. فالبنك الدولى عندما يؤيده هذه التوجهات يتنبأ بالرخاء الاقتصادى فى المستقبل للبلدان المتقدمة وبلدان العالم الثالث معاً. ويتوقع ارتفاع حجم التجارة العالمية كما يتوقع زيادة معدلات النمو للاقتصاد العالمى خلال المدة 1995 – 2005 بنسبة 3.3% سنوياً.

أما الصندوق جاء فى تقريره لعام 1995 التأييد الكامل لنتائج جولة أورجواى لأنها تمثل انتصاراً للبلدان الرأسمالية التى سعت إلى تحويل الجات إلى منظمة دولية على غرار مؤسستى بريتون وودز.

وإزاء التطورات الجديدة فى ظل العولمة والمفهوم غير الدقيق للنظام العالمى الجديد الذى نشا عقب أم المعارك. وفى ضوء تفاقم أزمة المديونية العالمية وتهميش مفهوم التنمية بدأت الدول الصناعية تتنصل من التزاماتها تجاه دول العالم الثالث باسم العولمة، وعلى دول العالم الثالث أن تشق طريقها نحو التنمية، ويقتصر دور الدول الصناعية حينئذ بمساعدة دول العالم الثالث للحاق بالسوق العالمية من خلال ترتيبات بين الأطراف المعنية، هذا الشرط تمارسه المؤسستان الدوليتان اللتان تملكان التأثير الأكبر فى الصعيد العالمى، واللتان ظلتا مخلصتين لفلسفتهما منذ البداية نظراً للسيطرة الكاملة عليها من قِبل الدول الرأسمالية، فهى التى تصمم وتنفذ برامج الإصلاح الاقتصادى وسياسات التثبيت والتكيف الهيكلى فى دول العالم الثالث وبهذا الصدد يشير جورج قرم إلى أن الدور المتصاعد لصندوق النقد الدولى من شأنه أن يبرز هذه المؤسسة المالية العالمية وكأنها ممثل أمريكى فوق الدول. تأشيراً لهيمنة الولايات المتحدة على هاتين المؤسستين.

ومع تعاظم دور مؤسستى بريتون وودز التى صارت توجه النظام العالمى بشقيه النقدى والاستثمارى، فإن تطلعات إدارة النشاط التجارى استكمالاً لما سبق أصبحت تتجه نحو ضرورة قيام مؤسسة دولية قادرة على إنجاح جولة أورجواى وإقرار منظمة التجارة العالمية لتحل محل الجات ولتصحب جزءاً جديداً من الإطار المؤسسى للعولمة.

اتفاقية الجات وجولاتها وتأسيس منظمة التجارة العالمية:

اتجهت العديد من الدول نحو صياغة اتفاقية عامة للتعريفات الجمركية والتجارة GATT فى عام 1947 تهدف من خلالها تشجيع قيام تجارة دولية حرة وعادلة بين أعضائها. وتعتبر الجات أهم منظمة دولية إلى جانب مؤسستى بريتون وودز غير أنها تختلف عنهما من حيث المركز القانونى. إذ أنها لم تكن سوى مجموعة من المبادئ والإجراءات قصد منها أن تكون إطارا تنظيمياً للمعاملات التجارية الدولية، فليس لها صلاحيات أو وسائل للمعاقبة يمكن اللجوء إليها واستخدامها، وبالتالى فهى لم تكن سوى منبر للمناقشات، يمكن من خلاله الحور والوصول إلى اتفاق حول الحد التدريجى من التفرقة والحواجز الأخرى أمام التجارة. لذا يطلق عليها البعض تسمية (الاتفاقية العام للكلام والكلام)، لكن مع ذلك هناك العديد من المبادئ التى ينبغى على الدول الأعضاء الالتزام بها.

التحديات الحالية والمستجدات العالمية:

اقبل القرن الحادى والعشرون بمتغيرات وتحديات كثيرة، ورغم أن أى متغيرات تتضمن فرصاً وقيوداً إلا أن المتغيرات والتحديات المعاصرة جعلت إلينا قيوداً وتهديدات وتحديات أكثر مما حملت إلينا من فرص. كما أن هذه المتغيرات على اختلاف جوانبها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية أسفرت عن طفرة واسعة لنظم الإدارة والإنتاج فى منظمات الأعمال فى الدول المتقدمة عنها فى مثيلاتها فى الدول النامية وباتت الفجوة واسعة بين القدرات والمميزات الثقافية لمنظماتهم ومنتجاتهم وبين منظمتنا ومنتجاتنا.

ليس هذا فحسب بل أن المتغيرات السياسية والاقتصادية إلى جانب العولمة أفرزت منظمة التجارة العالمية التى انبثقت عن الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة (الجات GATT) والتى تضمنت اتفاقية حقوق الملكية الفنية والفكرية، التى قننت حماية المبتكرات التكنولوجية وحرمت نقلها بطرق غير مشروعة، ورفعت من تكلفة الحصول عليها، وباتت معالجة آثار هذه المتغيرات والتحديات تمثل تحدياً من أكبر التحديات التى تواجه الإدارة المصرية والعربية.

وفى هذا السياق تهدف هذه الورقة إلى:

  • استعراض أهم المتغيرات ومن ثم التحديات التى حدثت خلال الفترة الأخيرة.
  • تحديد الآثار الحالية والمستقبلية لهذه التحديات.
  • طرح مجموعة من التساؤلات تمثل محاور موضوعية للتأمل والتحليل لكل من الإدارة المصرية والعربية.

أهم المتغيرات والتحديات الحالية:

شهدت العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين ظواهر عديدة تكونت بفعل تطورات سريعة سبقتها، ومن المتوقع أن تستمر هذه الظواهر خلال العقدين أو العقود الثلاث الأولى من القرن الحادى والعشرين حتى تتبلور فى صورتها النهائية. ومن أهم هذه المتغيرات ما يلى:

1- أحادية النظام العالمى:

أدى انهيار ما كان يعرف سابقاً بالاتحاد السوفيتى إلى انهيار التوازن الدولى الذى كان سائداً خلال القرن العشرين بين القطبين الاشتراكى والرأسمالى، وصار العالم عالماً ذا قطب واحد يفرض إرادته دون منازع وتراجعت احتمالات الحروب العالمية الكبرى، وحلت محلها الحروب الاقتصادية أو التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، وبين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى، ورغم ذلك فإن الظاهر حتى الآن هو نوع من الهيمنة شبه المنفردة للولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمى.

وقد ساهم الصمود السياسى للنموذج الرأسمالى فى الترويج لمفرداته حرية الورق، المستثمر الخاص والأجنبى، الملكية الخاصة، حرية التجارة، آليات السوق، بما اوجب على معظم البلدان عموماً والنامية منها بشكل خاص تعديل هياكلها الاقتصادية لتلائم مفردات النموذج الرأسمالى.

 

2- العولمة:

أهم ما يتسم به عالم اليوم هو التداخل الواضح والمتزايد لأمور الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة، وأصبح الحديث عن اقتصاد كوكبى أو كونى تتم فيه العلاقات الاقتصادية بحرية شديدة أمرا معتاداً، بل وحديثاً للساعة، ونورد فيما يلى بعض الأمثلة لتوضيح هذه الظاهرة:

ففى جانب الاتصالات والإعلام: أصبحت إمكانية الاتصال تليفونياً بأى مكان بالعالم دون تدخل من أى إنسان ميسورة المنال، كما أمكن بسهولة نقل النصوص المكتوبة بالفاكس فضلا عن متابعة الأحداث العالمية فى التو واللحظة عن طريق البث التليفزيونى الفضائى.

وفى جانب السلوك: انتقال سلوك المجتمع الأوربى والأمريكى إلى كافة المجتمعات الأخرى، فالكل يأكل البيتزا والماكدونالدز، ويشرب الكوكاكولا والبيبسى ويلبس الجينز والتيشرت.

وفى جانب الثقافة: أدى تنميط السلوك البشرى على امتداد الكرة الأرضية إلى التنميط الثقافى، حيث يتم نقل الكثير من ثقافات وقيم المجتمعات العربية إلى باقى المجتمعات والجدير بالذكر أن هذا النقل فى اتجاه واحد فى معظم الحالات. وما يضاعف من خطورة هذا الجانب هو الارتباط الوثيق بين جانبى العولمة الاقتصادى والثقافى ذلك الارتباط الخطير الذى يعنى أن من يمتلك مقومات وتكلفة عناصر الإنفاق هو الجانب الذى يستطيع بسهولة ويسر أن يفرض ثقافته على الجانب الآخر، والذى ربما يؤدى به حاله إلى العجز حتى عن وقاية نفسه من تأثيرات هذه الثقافة، حيث يتم محو تأثير ثقافة الفقير واستبدالها بما لا يتناسب مع مكوناته وأصوله الثقافية والحضارية وفى هذا إزالة الثقافة والهوية.

وفى جانب الاقتصاد: ما نقرا عنه ونسمعه يومياً عن عمليات التحرر الاقتصادى والاندماج بين شركات ما نقرا عنه ونسمعه يومياً عن عمليات التحرر الاقتصادى والاندماج بين شركات كبرى، فضلاً عن الاعتماد المتبادل بين الدول والكيانات الاقتصادية، وانفصال دورة المال إلى حد كبير عن كل من دورة الإنتاج ودورة التجارة على الصعيد الدولى، والانفتاح على العالم، وتمجيد قوى السوق دون الحاجة إلى التدخل الشديد من جانب الحكومات، والخصخصة، والتخلص من كثير من العاملين فى الحكومة والعمالة المكتبية فيما يعرف بتصغير الحجم Downsizing.

ولعل ما يطرح على الساحة الآن هو الشركات العملاقة والتى يطلق عليها الشركات متعدية الجنسيات التى تتعدى القوميات، والتى أصبحت المنظم المركزى للأنشطة الاقتصادية فى اقتصاد عالمى يتزايد تكاملاً، وتعتبر هذه الشركات وسيلة أساسية لتدعيم الاستثمار فى أى قطر تدخله. ويمكن تحديد أهم سمات الشركات متعدية الجنسيات فى الآتى:

الضخامة: تتسم الشركات متعدية الجنسيات بضخامة الحجم، والحجم المقصود هنا ليس هو حجم العمالة، أو مقدار رأس المال، أو حجم المبيعات بل هو رقم المبيعات أو رقم الأعمال أو حجم الإيرادات. لذلك فإن ترتيب الشركات متعدية الجنسية كما أوردتها مجلة Fotune يعتمد على مقياس حجم الإيرادات، وطبقاً لتقدير المجلة لعام 1997 فقد جاءت شركة جنرال موتورز الأولى بين خمسمائة شركة بإجمالى إيرادات 178.2 مليار دولار (يعادل مرتين وثلث الناتج المحلى الإجمالى فى مصر) وحققت أصغر شركة فى المجموعة 8.9 مليار دولار وهى شركة صن. كما يبلغ حجم العمليات النقدية والمالية اليومية ما يقارب التريليون دولار.

تنوع الأنشطة: تتعدد منتجات الشركات متعدية الجنسيات وذلك لتعدد أنشطتها وتنويعها والدافع الأساسى لهذا التنوع هو رغبة الإدارة العليا التغلب فى التدنى باحتمالات الخسائر. وهو ما وصفه البعض بأن هذه الشركات أحلت وفورات مجال النشاط محل وفورات الحجم، ويفسر هذا التنوع أن الشركة متعدية الجنسيات لا تتيح بنفسها إلا المحدود من السلع التى تدخل فيها مكونات من إنتاج شركات أخرى. ومن أمثلة ذلك التنوع أن الشركة الدولية التلغراف والتليفون مثلا تمتلك شبكة فنادق شيراتون المنتشرة فى معظم بلدان العالم.

التخصص فى إنتاج مكونات السلع: تفرض الشركات متعدية الجنسيات التخصص فى إنتاج مكونات السلع، ثم تنشئ وحدات تجميع، وتنتج تلك المكونات إما شركات تابعة للشركة متعدية الجنسية وإما شركات أصغر حجماً تتعاقد معها من الباطن لتتحول من إنتاج سلعة كاملة إلى إنتاج بعض المكونات فى مقابل تصريف المنتجات، وبهذا يمكن الشركة متعدية الجنسيات بطريق التعاقد من الباطن أن تسيطر على عدد كبير جداً من الشركات دون أن تفرط فى دولار واحد من أموالها.

وأوضح مثال على انتشار التخصص فى إنتاج المكونات هو حالة الطائرة كونكورد التى دخل فيها مكونات من إنتاج ثلاثين ألف مصنع موزعة فى أقطار عديدة. وعلى مستوى أقل تحصل صناعة السيارات على مكونات من خارج مصانعها ومن دول مختلفة، وهذا ما يعرف فى الولايات المتحدة بـ Out Sourcing. وكذلك ما أعلنته شركة BMW للسيارات من أن أحدث طراز أنتجته تم استيراد مكوناته من أقطار متعددة. وهنا مثار موضوع سيادة المنشأ ونعى بالمنشأ البلد الذى يحقق أعلى نسبة من القيمة المضافة على أرضه.

الانتشار الجغرافى والإدارة فى ظل ثورة المعلومات والاتصال: تنتشر الشركات متعدية الجنسيات فى عدد من الأقطار، مثال ذلك شركة ABB التى تكونت من اندماج شركة ASEA السويدية وشركة Brown السويدية فضلا عن 60 شركة أخرى تنتشر فى 130 دولة من بلدان العالم الثالث و41 شركة فى بلدان شرق أوربا. ولنا أن نتصور هول إدارة هذا كله بأساليب الإدارة المألوفة. وقد وجدت الشركة العون فيما أبدعته الثورة العلمية فى مجال المعلومات والاتصالات وكل شركة تابعة تعمل فى سوق الدولة التى استقرت فيها كشركة محلية تحصل على احتياجاتها من الخدمات والتمويل من داخل السوق ما أمكن. وتصل المعلومات عن نشاط كل شركة تابعة أولا بأول للإدارة العليا من شبكات الاتصالات الفضائية.

الاعتماد على المدخرات العالمية: تسعى الشركة المتعدية الجنسية لتوفير استثماراتها من مدخرات السوق العالمية حيث تطرح الشركة المتعدية الجنسية أسهمها فى كل الأسواق المالية الكبرى فى العالم كبورصة طوكيو ونيويورك ولندن وباريس وزيورخ فضلا عن الأسواق الواعدة مثل سوق هونج كونج وسنغافورة. كما تعتمد تلك الشركات فى توفير استثماراتها على الاقتراض من البنوك متعدية الجنسيات. وعليه فليس مستغرباً أن نجد أن بنك ألمانيا يوفر قرضاً لشركة متعدية الجنسية مقرها طوكيو لتشترى شركة أمريكية المقر. لاحظ فى هذا المثال (وهو قريب من الواقع إلى حد كبير)، أن الشركات متعدية الجنسية تستقطب الجزء الأعظم من تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر وتوجيه أساسا إلى أسواق الدول الصناعية التى تمثل ثلاثة أرباع السوق العالمية، رغم أن سكانها لا يزيدون عن 18% من سكان العالم. ومن القواعد الأساسية فى الشركات متعدية الجنسية إلزام كل شركة تابعة بأن توفر محلياً أقصى ما يمكن من التمويل اللازم لها، سواء يطرح أسهم فى السوق المالية المحلية أو الاقتراض من الجهاز المصرفى المحلى.

تعبئة الكفاءات: لا تفضل الشركة متعدية الجنسية مواطنى دولة معينة عند اختيار العاملين فيها حتى فى أعلى المستويات التنفيذية، فشركة ABB ينتمى أعضاء مجلس إدارتها الثمانية إلى خمسة جنسيات، فلا تفضيل للسويديين أو السويسريين وإنما للكفاءة فى الأداء.

إن النمط السائد فى الشركات متعدية الجنسيات هو الاستفادة من الكادر المحلى، فكل شركة تابعة تعمل على إفراز العناصر الواعدة ثم تصعيدها إلى الكادر الدولى للشركة الأم بعد اجتياز سلسلة من الاختبارات والمشاركة فى عدد كبير من الدورات التدريبية. وهكذا تستورد الشركات متعدية الجنسيات خبراء الدول الأخرى وذلك من خلال اجتذابهم من شركات أخرى فيما يعرف بعملية اصطياد الرؤوس.

بعد كل ذلك يم عد غريباً على المرء أن يستورد سلعة من الولايات المتحدة تكون من إنتاج شركة أمريكية تملكها شركة فى اليابان، أو يشترى منسوجات من فرنسا ظناً أنها فرنسية الصنع ويجد أنها صنعت فى اندونيسيا حيث مقر الشركة الرسمى فى فرنسا. وتصل الرسوم المطلوبة وغيرها من المواصفات إلى المصنع فى اندونيسيا بالفاكس أو بالبريد الالكترونى فيما يعرف بالإنتاج عن بعد Tele Production. كل ذلك يوضح بجلا سيطرة الشركات متعدية الجنسية على المعاملات الاقتصادية الدولية.

3- منظمة التجارة العالمية World Trade Organization (W. T. Op. Cit.,)

كانت البداية عام 1947 عندما أنشئت الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات) GATT بعد الحرب العالمية الثانية بهدف تحرير التجارة الدولية والتغلب على ما خلفته الحرب من مشاكل واجهت العالم كله.

وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية قد أشرفت منذ إنشائها على سبع دورات (جولات) للمفاوضات التجارية بين البلدان الأعضاء، إلا أن الواقع العملى والفعلى للاقتصاد العالمى قد شهد مرحلة من الاضطرابات الشديدة اعتباراً من نهاية عقد الستينات تمثل فى انهيار نظام بريتن وودز لأسعار الصرف الثابتة عام 1971 عندما وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها غير قادرة على الاستمرار فى الوفاء بالتزاماتها بتحويل الدولار إلى ذهب بسعر ثابت، فقامت بإيقاف التزاماتها بتحويل الدولار إلى ذهب عام 1971، ومن ثم تم الأخذ بنظام أسعار الصرف الحرة (العائمة) واقترن ذلك بارتفاع غير مسبوق فى أسعار الطاقة (بعد حرب أكتوبر 1973) والتقلبات الشديدة التى شهدتها العملات الرئيسية فى العالم: الدولار الأمريكى والين اليابانى والمارك الألمانى، وانعكس ذلك على الاقتصاد العالمى فشهدت معظم البلدان الصناعية والنامية موجة كساد تضخمى صاحبها اختلالات شديدة فى موازين المدفوعات الدولية.

هذا الواقع الفعلى لم يعد صالحاً ليكون أرضية خصبة لمزيد من تحرير التجارة العالمية، بل على النقيض تماماً فقد أدت ظروف الكساد التضخمى إلى ردود أفعال شديدة من جانب معظم البلدان، فلقد انتشرت موجات من الحماية الجمركية فى البلدان الصناعية خاصة أمريكا والاتحاد الأوربى عرفت باسم الحمائية الجديدة والتى لجأت إلى أساليب حمائية لم تكن معروفة من قبل فى سبيل حماية الصناعة الوطنية أمام المنافسة الأجنبية.

وقد لعب ظهور القوة الاقتصادية فى شرق آسيا (اليابان وكوريا وتايوان وهونج كونج وسنغافورة) دوراً هاماً فى ظهور حقبة الحمائية الجديدة، حيث تمكنت هذه الدول من عزو أسواق البلاد الصناعية التقليدية على النحو الذى أحدث اختلالاً حاداً فى عدد كبير من الصناعات سواء التقليدية أو الحديثة، ولم تستطع الولايات المتحدة وأوربا الغربية أن تواجه هذه القوة الاقتصادية الصاعدة إلا بابتكار أساليب حمائية جديدة تعد فى الصميم انتهاكاً صريحاً لاتفاقية الجات، وتبع ذلك انتهاكات عديدة لأحكام اتفاقية الجات وتعددت المنازعات بين البلاد الأعضاء، الأمر الذى غلف الأجواء العامة بغيوم كثيفة وانتشرت روائح حروب تجارية فيما بين البلاد الصناعية الرئيسية، الأمر الذى استدعى معه الدعوة إلى الدخول فى مفاوضات متعددة حفاظاً على الاتفاقية العامة ورغبة فى التخفيف من هذه المشكلات التى بدأت تظهر على سطح العلاقات الاقتصادية الدولية.

 

من هنا ظهرت الدعوة إلى عقد جولة أورجواى من أجل محاولة وضع قواعد جديدة تحكم النظام التجارى العالمى فى ظل متغيرات جديدة لم تشهدها أيا من الدورات السبع السابقة لاتفاقية الجات (جولة جنيف 1947، جولة انسى بفرنسا 1949، جولة توركى بانجلترا 1951، جولة جنيف 1955، جولة ديلون 1962، جولة كيندى 1963 – 1967، جولة طوكيو 1973-1979)، ويكفى للتدليل على أن هذه الجولة تختلف عن سابقتها أن نوضح أن جولة أورجواى يجب قبولها ككل أو رفضها ككل (صفقة واحدة) بمعنى أنه لا توجد مجالا للتعديل أو التغيير فى نصوصها.

ما يهمنا من العرض السابق هو ما أسفرت عنه جولة أورجواى للمفاوضات التجارية متعددة الأطراف من تعديلات للاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (جات 1947) من أجل مزيد من تحرير التجارة العالمية فى السلع والخدمات GATTS وإنشاء منظمة التجارة العالمية WTO التى بدأت أعمالها فى يناير 1995 (مع منح الدول النامية مهلة 10 سنوات تنتهى فى 2005).

جرى تخفيض للرسوم الجمركية بموجب اتفاقية أورجواى بمقدار 36% ينفذ على 6 سنوات اعتباراً من 1995 للبلدان الصناعية و10 سنوات للبلدان النامية، وذلك فى السلع الصناعية، بينما يشمل التحرير ما بين 25% و30% فقط فى السلع الزراعية – هو توضيح ما يشاع خطأ عن أن منظمة التجارة العالمية إنما أنشئت لخدمة مصالح الدول الصناعية والشركات متعدية الجنسيات وعلى حساب البلدان النامية. ورغم أن هذا هو ما يشاع إلا أن الحقيقة غير ذلك. إن منظمة التجارة العالمية تهتم بالبلدان النامية بدرجة لا تقل عن اهتمامها بالبلدان المتقدمة، يتضح ذلك إذا علمنا أن مبادئ منظمة التجارة العالمية تقوم على:

  • عدم التمييز بين الدول المختلفة فى التجارة الدولية، وإن كان ثمة تمييز فهو لصالح البلدان النامية.
  • وضع قواعد السلوك والانضباط فى العلاقات التجارية الدولية وفرض جزاءات على من يخرج عن تلك القواعد.
  • تخفيض القيود المفروضة على تدفق السع والخدمات فى التجارة الدولية، هذا بخلاف سريان مبدأ الدولة الأولى بالرعاية.

وما ينبغى توضيحه هنا هو ما سبق أن ذكرناه من قبل عند الإشارة إلى الفرق بين جات 1947 وجات 1994 (أورجواى) من أنه ليس من حق الدول الموقعة على الاتفاقية أن تختار من هذه الاتفاقية وتعريفاتها ما يناسبها وترفض ما لا يناسبها فهى تؤخذ ككل أو ترفض ككل، بعكس ما كان سائداً فى جات 1947. وبديهى أن الأهمية النسبية لتلك الاتفاقيات تفاوت من دولة لأخرى تبعاً لظروفها الخاصة. فاتفاقية الزراعة ستكون أكثر أهمية للبلدان المصدرة للسلع الزراعية وكذلك للبلدان المستوردة لها، ولكنها ليست ذات أهمية بالنسبة لدول أخرى مثل هونج كونج وسنغافورة. واتفاقية المنسوجات والملابس ستكون مهمة لدول كمصر وسوريا وتايلاند ولكنها ستكون أقل أهمية لدول مثل الكويت وقطر. معنى ذلك أن ما تحصل عليه دولة من مزايا من جراء عضويتها فى منظمة التجارة الدولية يتوقف بصفة أساسية على أحكام الاتفاقيات التى تعنيها بالنظر فى هيكل تجارتها الخارجية.

ولما كانت اتفاقية أورجواى لا تخرج عن كونها كمصدر للحقوق والالتزامات، فإن قبول أو رفض أى دولة الانضمام إليها إنما يتم بناء على تقديرها لما تحصل عليه من مزايا أو مساوئ هذا بخلاف ما ورد فى الاتفاقية من استثناءات على الالتزامات الناشئة خاصة بالنسبة للبلدان النامية والأقل نمواً دون غيرها من البلدان الأعضاء.

تحرير التجارة والشفافية:

لا شك أن الهدف من إنشاء منظمة التجارة العالمية هو إضفاء مزيد من التحرير فى المعاملات التجارية بين الدول. وتصور البعض أن التحرير يعنى إلغاء كافة القيود التى ترد على التجارة الدولية سواء كانت فى صورة قيود جمركية أو فى صورة قيود كمية (حصص استيراد وتصدير)، وهذا التصور خاطئ لأنه على هذا النحو يضع البلدان النامية فى معركة خاسرة مع البلدان المتقدمة.

لقد فرقت الجات بين نوعين من القيود التى ترد على المعاملات التجارية الدولية: القيود الجمركية من ناحية، والقيود الكمية من ناحية أخرى. ولقد حظرت الجات استخدام القيود الكمية إلا فى حالات استثنائية كحدوث عجز جسيم فى ميزان المدفوعات وسمحت للبلدان النامية أن تستخدم سلاح الرسوم الجمركية على الواردات (مبدأ الشفافية) بشرط واحد هو الربط Binding والذى يعنى أن تلتزم الدولة المعنية بعدم رفع الرسوم الجمركية على سلعة ما عن حد معين هو الحد الذى ورد فى الجدول الخاص الذى قدمته كل دولة للمنظمة (والذى عرف بجدول الالتزامات Schedule Of Concessions) والذى بينت فيه كل الرسوم الجمركية المربوطة وحدود الربط.

مثلاً يمكن لدولة كمصر أن تطلب من كل الدول التى تستورد منها مصر أن تربط الرسوم الجمركية على صادرات مصر إليهم فى حدود مبلغ أو نسبة معينة ولتكن 15% مثلاً، مقابل عرض Offer من مصر أن تربط الرسوم الجمركية على وارداتها منهم مقابل 20% مثلاً.

إذن فالعملية لا تخرج عن كونها مفاوضات بين الأطراف المتعددة فيما بين طلب وعرض، ومتى تم الاتفاق أصبحت مصر والدول الأخرى مرتبطة Binding بجدول الالتزامات الذى تم الاتفاق عليه، ويندرج تحت هذا الاتفاق مباشرة بين سائر الأعضاء وليس بين الطرفين فقط، وذلك إعمالاً لشرط الدولة الأولى بالرعاية Most Favored Nation والذى ينص على عدم التمييز، بمعنى أن يكون نفاذ البلدان النامية إلى أسواق التصدير على قدم المساواة مع البلاد الأخرى المصدرة للسوق نفسها.

الإغراق Dumping:

يقصد بالإغراق بيع السلع الأجنبية فى البلد المستورد بسعر أقل من الذى تباع به فى بلد التصدير، وبشرط أن يؤدى ذلك إلى إلحاق ضرر ملموس للصناعة المحلية. ولابد من إثبات أن الإغراق هو الذى أدى إلى هذا الضرر وليس أى سبب آخر محلى (كساد، انخفاض مبيعات، أو غير ذلك من أسباب).

والإغراق بهذا الشكل يعتبر طريقاً غير مشروع للمنافسة غير المتكافئة بين الدول، وأيا كان الهدف من وراء بيع السلع بأقل من أسعارها فى بلد التصدير (القضاء على صناعة منافسة فى دولة ما أو تصريف فائض إنتاج كبير بأى سعر) فإنه لابد وأن يحدث ذلك ضرراً بالصناعة المحلية حتى تسمى الحالة إغراقا، وعلى المتضرر إثبات ذلك، فإذا أثبته يكون من حق البلد المتضرر فرض رسوم جمركية مضادة للإغراق Anti Dumping معادلة للفرق بين سعر البيع فى بلد التصدير وسعر البيع فى بلد الاستيراد.

الملكية الفكرية:

تمكنت جولة أورجواى من تحقيق تقدم ليس فى مجال خفض الرسوم الجمركية وإلغاء القيود الكمية فحسب، بل بالتوقيع على اتفاقية خاصة بالملكية الفكرية.

لقد وضعت اتفاقية الملكية الفكرية تحدياً جديداً أمام الصناعة المصرية، فقد نصت هذه الاتفاقية على حماية كل من المنتج النهائى وطريقة الصنع، ولمدة زمنية قدرها عشرون عاماً، كذلك قدمت اتفاقية حقوق الملكية الفكرية حماية لكافة أنواع براءات الاختراع سواء تلك التى تتعلق بعملية التصنيع Process أو تلك المتعلقة بالمنتج النهائى Products وبكافة حقوق التكنولوجيا والمعرفة الفنية، طالما أن الاختراع مسجل كاختراع جديد وقابل للتطبيق والاستغلال صناعياً وتجارياً. وقد ألزمت جولة أورجواى الدول الموقعة عليها بتحصيل عوائد الملكية الفكرية وبراءات الاختراع والعلامات التجارية لحساب أصحاب الحقوق.

اتفاقية الدعم والرسوم التعويضية:

إذا كان الإغراق سلوك تلجأ إليه المشروعات الخاصة للحصول على ميزة تنافسية غير عادلة فى أسواق التصدير، فإن الدعم هو عمل تقوم به الحكومة أو الهيئات العامة حتى تتمكن من البيع فى سوق الدولة المستوردة بسعر أقل من السعر الذى كان يمكن أن تباع به لولا وجود هذا الدعم. وفى هذه الحالة يكون للدولة المستوردة الحق فى فرض ضريبة مضادة للدعم Countervailing Duty بشرط توافر شروط موضوعية تثبت أن الدعم قد عاد بالضرر على هذه الدولة. هذا ولم تكتف جولة أورجواى بذلك، بل تجاوزته إلى وضع قواعد السلوك والانضباط التى تلتزم بها الدولة الداعمة.

هذا وقد فرقت اتفاقية الدعم بين ثلاثة أنواع من الدعم هى:

  • الدعم المحظور تماماً Prohibited Subsidies: وهو الدعم الذى تمنحه الدولة لسلعة تصدرها للخارج، أو يكون لسلعة منتجة محلياً للإحلال محل الواردات، ويكون الدعم متوقفاً على نسبة المكون المحلى. وسواء كان الدعم لسلعة تصديرية أم سلعة تحل محل الواردات، فإن الاتفاقية تعطى للدولة الشاكية الحق فى اتخاذ إجراءات مضادة للدعم، وقد يستوجب هذا النوع من الدعم اتخاذ إجراءات تعويضية من جانب الدول المتضررة فى شكل رسوم تعويضية.
  • الدعم المشروط Actionable Subsidies: وهو الدعم الذى يترتب عليه ضرر ملموس بالصناعة المحلية لدولة أخرى أو ضياع منفعة كانت الدولة الشاكية تتوقع الحصول عليها. مثال ذلك أن تلتزم الدولة الداعمة فى إطار اتفاقية منظمة التجارة العالمية بربط الرسوم الجمركية على سلعة الإطارات مثلا التى تستوردها عند 20% بعد أن كانت 30%، ثم تقوم هذه الدولة بمنح دعم لمنتجى السلع المنافسة لهذه السلعة فى مصر (الإطارات المصرية) فى حدود 25% وبذلك تلغى مصر أثر الربط عن طرق الدعم. هنا يجب وقف هذا الدعم، وألا يحق للدول المتضررة فرض الرسوم التعويضية لمواجهة آثار هذا الدعم.
  • الدعم المباح Non – Actionable Subsidies: وهو الدعم الذى لا يستوجب اتخاذ إجراءات تعويضية لأنه لا ينصب على سلعة أو صناعة معينة، ومن أمثلته الدعم الناشئ عن قيام الدولة بإنشاء طريق أو بناء محطة كهرباء، مما يعود بالفائدة على صناعات وأنشطة اقتصادية مختلفة، ويدخل ضمن باب الدعم المسموح به للمساعدات التى تقدم للأبحاث الصناعية. وتلك التى تقدم لمناطق تحتاج إلى تطوير أو المحافظة على البيئة.

هذا، ويمنح اتفاق الدعم للبلدان النامية والأقل نمواً والتى لا يصل فيها متوسط نصيب الفرد من الناتج القومى الإجمالى إلى 1000 دولار سنوياً استثناءات فى هذا الشأن. بحيث يمكن لهذه الدول أن تدعم صادراتها أو صناعتها المحلية المنافسة مع الواردات دون أن يكون للدول الأخرى الحق فى إجراءات مضادة للدعم.

اتفاقية الحماية ضد الزيادة غير المبررة للواردات:

أتاحت الاتفاقية العامة للبلدان، التى يؤدى التدفق الكبير والمفاجئ للواردات إليها من سلعة معينة إلى ضرر جسيم أو تهديد للصناعة المحلية المماثلة، أن تتخذ إجراءات وقائية – بشرط إثبات حدوث ضرر جسيم أو إثبات علاقة السببية بين تضخم الواردات والضرر الجسيم – كفرض ضريبة جمركية مضادة مثلاً (فى هذه الحالة يمكن للدولة المتضررة أن تفرض قيوداً كمية على الواردات من  السلعة محل الشكوى على ألا تكون الحصة المسموح بها من السلعة أقل من متوسط الواردات خلال ثلاث سنوات سابقة عادية)، وتلتزم الدولة التى استخدمت الإجراءات الوقائية بتعويض دولة التصدير عما أصابها نتيجة جرم لم تقترفه.

ونلاحظ هنا أن الدولة المصدرة لم ترتكب أى مخالفة، فالزيادة فى الصادرات قد تكون ناتجة عن زيادة كبيرة فى طاقتها الإنتاجية، أو بإتباعها خطط تصديرية أكثر كفاءة، ولكنها لم تستخدم الإغراق، أو الدعم كوسيلة لزيادة صادراتها، وكذلك تلتزم الدولة التى استخدمت الشرط الوقائى ضدها بتعويضها عما حاق بها من آثار سلبية كما أشرنا أعلاه.

قصدنا من العرض السابق توضيح نقاط هامة تتعلق باتفاقية الجات وخاصة الجولة الأخيرة والثانية (جولة أورجواى) لنؤكد بأن هذه الاتفاقية وفى ظل إنشاء منظمة التجارة العالمية قد فتحت أمام البلدان النامية الفرص العديدة لزيادة صادراتها إلى الأسواق الصناعية المتقدمة، فعلى الرغم من أن الجات لا تفرض التزاما على أعضائها بتخفيض الضرائب الجمركية إلا أن هذه الثورات أسفرت عن تخفيضات كبيرة بدافع المصلحة المتبادلة، وترتب على ذلك تحرير أسواق البلاد المتقدمة أمام صادرات البلدان النامية، كما أن الدول المتقدمة الصناعية التزمت بالتمسك بقواعد الانضباط والسلوك عند تعاملها مع البلدان النامية، فضلا عن إلغاء القيود الكمية بشكل يكاد يكون نهائياً.

ومع ذلك فإن الصورة ليست وردية تماماً، فالدول الصناعية عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصة أصرت على وضع للركوب المجانى للدول النامية، حيث كان يطلق على البلاد النامية وصف الراكبون مجاناً Free Riders، وهنا يتطلب الأمر من البلدان النامية أن تقوم بدورها فى عملية التنمية والتقدم فى ظل بيئة عالمية أكثر تحرراً.

ولذلك فليس الهدف مما سبق عرضه أن تعمد البلدان النامية إلى الاسترخاء وتسعى للاستفادة من الاستثناءات التى قررتها الاتفاقية، بل عليها أن ترفع درجة الاستعداد لمواجهة المنافسة التى سوف تشتد سواء فى داخلها أو فى الأسواق الدولية، وعليه، فعلى هذه البلدان أن تزيد إنتاجية العمل بها، وترفع كفاءة الاستثمارات، وتحسن من جودة المنتجات، مع إتقان مهارات التسوق والتفاوض، وتقتحم مجالات جديدة واعدة بما يخلق لهذه الدول ميزة تنافسية ترفع من معدلات النمو الاقتصادى بها.

وأخيرا نورد الإشارة إلى أنه بإنشاء منظمة التجارة العالمية WTO (بدأت أعمالها فى يناير 1995) يكون قد اكتمل مثلث إدارة العالم بأضلاعه الثلاث: صندوق النقد الدولى، البنك الدولى، ومنظمة التجارة العالمية.

4- التحريرية والحمائية:

على الرغم من أن إنشاء منظمة التجارة العالمية قد أدى إلى زيادة درجات التحرير فى المعاملات التجارية بين الدول بالقياس لما كان عليه الحال قبل ذلك، إلا أن الملاحظ من جهة أخرى أن هناك اتجاهاً يتزايد نحو الحمائية عن طريق تكوين التجمعات التجارية الإقليمية والجات تبيح إقامة مثل هذه التجمعات كالمناطق التجارية الحرة والاتحادات الجمركية، طبقاً للمادة (24) منها:

لقد تزايد عدد التنظيمات الإقليمية فى العالم بمعدلات متزايدة، وأكثر هذه التكتلات الإقليمية نجاحاً هو ما كان بين الدول الصناعية مثل الاتحاد الأوروبى الذى أعلن فى عام 1993 كتطور للسوق الأوروبية المشتركة (1959)، والسوق الأمريكية الشمالية NAFTA والتى تضم كندا، والمكسيك، والولايات المتحدة الأمريكية (انضمت شيلى مؤخراً لعضويته) فى سوق واحد كبير تضم 360 مليون نسمة تقريباً. ويبدو ثقل هذا التكتل فى ضوء أن كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا عضوان كبيران فى مجموعة السبع الكبار (وهى الدول الصناعية المتقدمة: اليابان، فرنسا، بريطانيا، ايطاليا، ألمانيا) ثم تكتل جنوب شرق آسيا ASEAN الذى يضم عدداً من الدول الصناعية الجديدة فى آسيا مثل سنغافورة وماليزيا واندونيسيا وتايلاند والفلبين وبروناى، ثم منتدى التعاون الآسيوى الباسفيكى APEC (دول آسيا والمحيط الهادى) الذى يضم أكبر ثلاث قوى اقتصادية فى العالم (أمريكا، اليابان، الصين) بالإضافة إلى نمور آسيا (هونج كونج، تايوان، سنغافورة، كوريا الجنوبية، ماليزيا، تايلاند، اندونيسيا) ومعهم استراليا وكذلك بعض دول أمريكا الجنوبية، ويهدف هذا المنتدى إلى إقامة منطقة للتجارة الحرة بين دوله بحلول عام 2010، ثم سوق الميركوسور MIRCOSOR (وتعنى باللغة الاسبانية سوق مشتركة للكتلة الجنوبية) الذى يضم عدة دول فى قارة أمريكا اللاتينية وتضم هذه السوق حوالى 2000 مليون نسمة بإجمالى ناتج محلى قيمته 700 بليون دولار. ومن أهم هذه الدول البرازيل، الأرجنتين، وأورجواى، وبارجواى.

وقد تزعمت الولايات المتحدة الأمريكية إنشاء عدد من مناطق التجارة الحرة تعزيزاً لمصالحها التجارية، فاتجهت إلى إقامة مناطق تجارة حرة مع كل من: إسرائيل، ودول الكاريبى، الميركوسور. ولم تقف أوروبا مكتوفة الأيدى بل سعت إلى مناطق الشرق الأوسط لتقيم مع أهم دول المنطقة اتفاقاً للشراكة الأوروبية / المتوسطية، فضلاً عن إقامة منطقة حرة بين الاتحاد الأوروبى ودول الميركوسور.

إذن تتنازع التجارة الدولية قوتان: التحريرية والحمائية، ويجب على البلدان النامية أن تتعامل مع هاتين القوتين بما يعظم استفادتها من التعامل التجارى الدولى:

  • عليها أن تنمى قدراتها الذاتية وقدراتها التنافسية للاستفادة من انفتاح الأسواق وفرص النفاذ المتاحة لها.
  • وعليها أيضا أن تستفيد من فرص الدعم والحماية من خلال تكوين التجمعات والتكتلات الإقليمية من أجل الدخول إلى السوق العالمى وهى فى منافسة متكافئة إلى حد ما مع الكيانات العملاقة.

يبقى السؤال المعلق وهو: إذا كان هذا هو حال الدول الصناعية المتقدمة فما بالنا نحن الدول العربية؟ خاصة وأن خيار التعاون العربى كتعاون إقليمى له كل فرص النجاح ما زال قيد البحث والدراسة، وهذا فى حد ذاته يمثل أهم أبعاد التحدى أو هو التحدى الحقيقى.

 

انعكاسات المستجدات العالمية على الإدارة:

من استعراضنا السابق لظاهرة العولمة والتى فرضت نفسها على عالم اليوم كتحد لابد من مواجهته والتعايش معه، نلاحظ أن تلك الظاهرة قد انعكست على الإدارة فجعلت المدير فى مصر (شأنه شأن المديرين العالميين) مطالباً بألا يعايش المتغيرات المحلية أو الإقليمية فقط، بل أيضا كل المتغيرات العالمية كأساس لبلوغ كفاءة وفاعلية الأداء الإدارى.

والعولمة كما أوضحنا غزت كل شىء، فهناك عولمة للنشاط المالى والتسويقى والإنتاجى والمعلوماتى… إلى غير ذلك، والإدارة ستتعامل من عالم يتلاشى فيه تأثير الحدود الجغرافية والسياسية وتسقط فيه الحواجز التجارية بين أسواقه، وعليه فالإدارة مقبلة على متغيرات عديدة لابد من أن تتعامل وتتعايش معها بكفاءة عالية.

1- فى مجال الإدارة التسويقية:

أدت ثورة الاتصالات وسهولة السفر لأن يصبح المستهلكون أكثر قرباً وتشابهاً فى احتياجاتهم ورغباتهم، ومع ذلك فلابد من دراسة الأسواق والمتغيرات السوقية العالمية والمحلية، حيث:

  • سيكون البيع والشراء آليا، وليس عن طريق المبادلات الشخصية، خاصة فى المصارف والبريد والسلع الغذائية.
  • قد تتحول منافذ التوزيع إلى خدمات بيع الكترونية من خلال التليفزيون والانترنت، وقد يؤدى هذا إلى انحسار تدريجى فى أداء العمالة التقليدية البيعية.
  • لابد من دراسة الأسواق بالكامل، حيث يكون الحصول على المستلزمات السلعية من دولة أو دول أخرى، والإعلان والترويج لن يكون محلياً بل عالمياً.
  • لابد من دراسة ثقافات وقيم واتجاهات ودوافع ورغبات المستهلكين على نطاق العالم ليس هذا فحسب بل قد يتطلب الأمر تحليل سلوك المنافسين سواء من خلال تحليل قرارات مديرى هذه الشركات أو من خلال الأسواق العالمية.
  • لابد من وجود وظيفة محلل سوق، لجمع المعلومات عن المنافسين من الشركات الأخرى مع إرسال هذه المعلومات إلى الشركة الأم لتحليلها ويتم على ضوئها التخطيط التسويقى والإنتاجى.
  • ستلعب التحالفات الإستراتيجية دوراً مهماً فى مواجهة تهديدات المنافسة العالمية، على اعتبار أن هذه التحالفات ستكون الأساس لكى تتحول كثير من الشركات الكبرى من شركات أنهكتها قوى التنافس إلى شركات ذات تحالفات من أجل خفض تكلفة التنافس وتكلفة البحوث والتطور.

2- فى مجال الهيكل التنظيمى:

  • سيتم الانتقال من بيئة بطيئة التغير ومن نموذج تنظيمى ميكانيكى جامد إلى بيئة ديناميكية سريعة التغير، حيث يتغير شكل الهيكل التنظيمى الهرمى إلى الشكل المفلطح ذو المستويات الإدارية الأقل، وستزداد الحاجة للعمالة غير المباشرة مقارنة بالعمالة المباشرة، وستزيد وظائف أخصائيو البحوث والتطوير وفنيو الصيانة للتعامل مع الأجهزة.
  • كذلك ستظهر الحاجة لتزويد القيادات الإدارية بمفهوم تمكين العاملين (أى جعلهم متمكنين من أداء مهام أوسع ومسئولين عن النتائج، وقبل كل ذلك تهيئتهم لممارسة هذا التمكين)، وذلك من خلال اختبار واع ومتميز للأفراد.

حالة عملية:

قامت شركة كرايسلر للسيارات قبل افتتاح مصنعها فى ميتشجان 1998 وهو المصنع القائم على الاوتوماتية (الأداء التلقائى للآلات) بتدريب عمالها فى برامج تدريب بلغت 900.000  ساعة تدريب. قارن ذلك بما حدث فى مصر قبل 4 سنوات عندما قرر وزير التربية والتعليم تدريس اللغة الانجليزية اعتباراً من الصف الرابع الابتدائى، دون تجهيز أو إعداد المعلمين المتخصصين فى ذلك، ووجدنا مدرسو الدراسات الاجتماعية (التاريخ والجغرافيا) يقومون بتدريس اللغة الانجليزية بالمرحلة الابتدائية.

  • ستظهر الحاجة لتزويد القيادات الإدارية بمفهوم أن المنظمة العلمية التدريبية فى ظل التطور التكنولوجى ستشمل على: زيادة الاستثمارات فى التجهيزات الاتوماتيكية، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق على برامج البحوث والتطوير. وهذا بدوره يؤدى إلى:
  • إفراز منتجات جديدة تنافسية.
  • قدرات تسويقية ومالية وبشرية عالية.
  • تخرج كوادر متخصصة تجعل التطور عملية مستديمة.

وبهذا فقط تتمكن الإدارة من الإمساك بطرفى التقدم والتطور:

  • الطرف الأول: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
  • الطرف الثانى: ملكية الأموال والاستثمارات.

وتملك الطرف الثانى بدون الطرف الأول لا يعنى شيئاً، لأن من يملك الطرف الأول يملك سبل تهيئة وتنمية أمواله، ومن يملك الثانية فقط قد يفقدها إذا أعوزته المعلومات عن تدبر وتحديد سبل الحفاظ عليها وتنميتها.

ولعل هذا ينقلنا إلى دور البحوث والتطوير فى مواجهة المتغيرات، ذلك أن مواكبة المتغيرات المتلاحقة يتطلب تفكيراً إبداعيا ومهارات ابتكارية، ليس فقط من جانب المديرين وإنما من كافة المستويات التنظيمية. فكما ذكرنا من قبل فإن العمل بالاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة (الجات) وفى ظل منظمة التجارة العالمية وما تتضمنه من اتفاقية حماية الملكية الفنية والفكرية، ستزيد تكلفة شراء التكنولوجيا، ولا مفر من ذلك إلا بتنمية التفكير الإبداعى وتشجيع الابتكارات لتطوير تكنولوجيا محلية فى عديد من مجالات النشاط الصناعى والزراعى والخدمى.

ويتطلب هنا:

  • تنمية الحس أو الشعور لدى الأطفال منذ نشأتهم.
  • تفعيل معظم الاقتراحات وحفز العاملين على تقديمها.
  • تبنى مدخل الجودة، والجودة الشاملة الممتزجة بتكنولوجيا المعلومات من أجل إعادة تصميم العمليات ابتكارياً.
  • تعميم مفهوم الهدم الخلاق Creative Destruction وهو الذى يتبنى أفكارا ومبادئ جديدة، مقابل إهمال أخرى قديمة، ويقوم على تغيير مخطط من أجل إحداث تحسينات مرحلية متتالية.

فعند الشعور بأن التكنولوجيا المستخدمة أصبحت أقل كفاءة يتعين التفكير فى استخدام البديل الأحدث على الفور، وعند الشعور بأن عدد العاملين يزيد عن العدد الأمثل يتعين على الفور (باستخدام مفهوم الهدم الخلاق) تقليل إعدادهم أو إعادة توزيعهم على مستويات ومواقع تنظيمية متعددة. وفى هذه الأثناء (السعى لاستبدال مبادئ ومفاهيم جديدة بتلك القديمة) سيحدث تصادم بين الجديد والقديم، وستحدث آثار جانبية سلبية، وهذا يتطلب مقدرة إدارية كفؤة على التحليل والتقدير.

 

كيف يمكن للمدير مواجهة كل هذه التحديات؟

  • بالتدريب المستمر والتعامل مع التطور التكنولوجى يتم التغيير الداخلى لذات المدير، أى تتغير نوعية الإدارة، وهذا يستتبع تحول الرؤساء من مشرفين مسيطرين متحكمين، إلى قادة محفزين مديرين للمشروع.
  • تحدى خفض العمالة Downsizing مع الاحتفاظ بمستويات العائد كما هى، وهذا الخفض يقابله تحد آخر ملازم له هو سرعة تبنى تكنولوجيا غير تقليدية وأكثر فعالية.
  • تحد تطوير إستراتيجية النفاذ للأسواق Market Access Strategy سواء من خلال تحسين الجودة أو تقصير دورة تقديم المنتجات الجديدة.
  • تحد التحول من التوجه الداخلى القائل نصنع أولا ثم نبيع إلى التحول الخارجى الذى يستشعر أولا حاجة العملاء، ثم يستجيب لها.
  • تحد احتواء العملاء من المنافسين، بمعنى كيفية حماية عملاء المنظمة من المنافسين واستمرار الاستحواذ عليهم، ويتطلب هذا أن تقترن إستراتيجية النفاذ للأسواق بإستراتيجية أخرى دفاعية تمنع المنافسين من الاستحواذ على عملاء المنظمة، وقد يكون ذلك عن طريق التحالف مع موردين أو موزعين أو بشراء أو دمج منافس أو أكثر مما يعنى عرقلة المنافسين باستمرار.

حالة عملية:

على الرغم من أن شركة فورد للسيارات استطاعت تطوير إستراتيجية النفاذ للأسواق من خلال سيارتها الجديدة متوسطة الحجم المعروفة باسم “تاوروس” التى فاقت المنافسة اليابانية، إلا أن فورد لم تتمكن من احتواء عملائها، ومن ثم فقدت فورد تميزها الذى تحقق خلال الفترة 1985 وحتى 1991.

تحد التحول للعولمة: وهو التحد الذى ينتظر كل المنظمات، حيث تقرن المنظمة احتوائها للسوق المحلى بسعى لدخول أسواق جديدة، وهذا يعنى الاتجاه لإقامة قاعدة من التحالفات الإستراتيجية مع شركات أخرى فى أسواق خارجية بما يهيئ لها تواجداً فاعلاً فى أسواق عالمية واستجابة مرنة وبأساليب ابتكارية لحاجات ورغبات العملاء التى تتباين باختلاف المواقع والأسواق والثقافات العالمية. وطالما أننا سنكون بصدد عالمية الطلب وعالمية العرض وأيضا عالمية المنافسة، فلابد إذن من عالمية استراتيجيات التحالف، ولن تستطيع أى منظمة أو مؤسسة أن تفعل ذلك إلا إذا توافر لها ميزة تنافسية ونقاط قوة، مثل: فاعلية شبكة التوزيع، فاعلية برامج البحوث والتطوير والابتكار، توافر مستويات مهارة عالية فى العاملين، وقبل كل ذلك توافر إدارة فعالة وكفؤة.

خلاصة القول أن المستقبل يحمل لنا تحديات لم نعتد على التعامل معها، وهذه التحديات موجودة الآن على نطاق محدود بعض الشىء، ولكن يتوقع أن تستفحل بمرور الزمن إذا لم نواجه هذه التحديات بكل الطرق والأساليب التى عرضنا لبعضها فى هذه المحاضرة.

الاقتصاد المصرى فى مواجهة التحديات العالمية:

قامت الحكومة المصرية بتنفيذ برنامجاً للتكيف الهيكلى فى يونيو 1991 لتعديل مسار الاقتصاد القومى بما يضمن تجنب الآثار السلبية للعلاقات الاقتصادية الدولية على الاقتصاد الوطنى وتعظيم الاستفادة من الايجابيات التى قد توفرها المتغيرات المعاصرة على الساحة الدولية.

والتكيف هو عملية تنموية، سواء كان ذلك يتم عن طريق قوى السوق أو عن طريق التخطيط، والهدف الرئيسى منه هو إزالة الاختلافات المحلية أو الخارجية من خلال تغيرات معينة فى السياسة الاقتصادية، ويتضمن التكيف الهيكلى جوانب متعددة تدخل ضمنها عمليات الإصلاح الهيكلى، كتعديل الجانب التنظيمى للقطاع العام، والقضاء على التشوهات السعرية، ومعالجة فجوة الموارد المحلية، سواء من خلال الاستثمار الأجنبى، أو الاقتراض. كما يدخل ضمن ذلك استخدام السياسات المالية والنقدية لتحسين وضع الموازنة العامة والتحكم فى كمية النقود والاستثمار، ولضمان بيئة مستقرة للنمو الاقتصادى، وتحقيق الاستخدام الكامل. والجانب الثالث الذى يدخل فى إطار هذه العملية هو استخدام سياسات صرف مناسبة تتكامل والجانبين السابقين.

1- مداخل التكيف الاقتصادى:

هناك مدخلان رئيسيان لعمليات التكيف، أحد هذين المدخلين هو إجراءات التكيف التى تتم بمشورة ودعم ورعاية كل من صندوق النقد والبنك الدوليين، وتتعلق هذه الإجراءات بتلك الشروط التى تقدمها أى من المؤسستين المذكورتين إلى البلدان النامية عند لجوئها إليهما للحصول على تمويل جديد. أما المدخل الآخر للتكيف، فهو المدخل المستقل عن تدخل صندوق النقد أو البنك الدوليين، حيث تجرى تدابير التكيف لتصحيح مسار الاقتصاد اعتماداً على التمويل الذاتى، أو بالاعتماد على مصدر تمويلى غير الصندوق أو البنك الدولى.

وقد يتطلب الأمر إجراء التكيف بدون تمويل خارجى، بل باستخدام إجراءات السياستين المالية والنقدية (إحداهما أو كلتاهما) وبعض إجراءات الرقابة المباشرة لتحقيق الأهداف المطلوبة.

ويمكن ملاحظة هذا لمدخل من التكيف فى البلدان الرأسمالية المتقدمة، وفى البلدان المصدرة للنفط، وقد اتبعت مصر المدخل الأول من مداخل التكيف.

2- إجراءات التكيف الخاصة بصندوق النقد والبنك الدوليين:

تضمنت حزمة التكيف الخاصة بالمؤسستين البنود التالية:

  • تخفيض سعر الصرف.
  • تقليص دور القطاع العام وفتح المجال للقطاع الخاص.
  • تحرير التجارة وإلغاء الحماية للصناعة الوطنية.
  • إلغاء الدعم للسلع الأساسية.
  • معالجة التشوهات السعرية.
  • إجراءات أخرى منها رفع سعر الفائدة ووضع سقف محدد لتوسع الائتمان.
  • هذا وقد نفذت مصر جميع البنود الواردة فى هذه الحزمة فيما عدا البند الأول والخاص بتخفيض العملة. واستطاعت مصر أن تعالج الاختلالات الداخلية (العجز الداخلى) والاختلالات الخارجية (العجز الخارجى) وبذلك تحقق التثبيت، أى حصر نتائج عوامل الاختلال الداخلى والخارجى فى أضيق الحدود. فانخفض عجز الموازنة العامة ما يقارب 2% من إجمالى الناتج المحلى، وتحقق انخفاضاً ملحوظاً فى عجز الميزان التجارى خلال السنوات العشر الماضية (فيما عدا الشهور الخمس الأخيرة من عام 1999)، ما استطاعت مصر أن تحدد سعر صرف الجنيه المصرى فى مقابل الدولار عند معدلات استقرت منذ ما يقرب من عشر سنوات، كما تم تخفيض مدفوعات الدعم فى جانب الإنفاق من 25% إلى 8% من إجمالى الإنفاق، وتم تعديل الأسعار بالنسبة للمنتجات الزراعية والصناعية، ومصادر الطاقة، وتحررت التجارة بتخفيض الرسوم الجمركية على الواردات، وإلغاء حصص التصدير، ونجحت مصر إلى حد كبير فى برنامجها للخصخصة، وأنشأت بورصة الأوراق المالية وانخفض معدل التضخم إلى ما يقرب من 4%.

ومع هذا فإن الاقتصاد المصرى وما يعانيه من مشاكل عديدة تراكمت عبر نصف قرن مضى يسعى جاهداً إلى زيادة معدلات النمو الاقتصادى الذى ما زال يتسم ببطء معدلات النمو، كما أن مصر ما زالت فى حالة إلى نمو مواد للعمالة Job Growth وذلك من خلال التوسع فى فرص التوظف وتحسين توزيع الدخول.

نحو إصلاح إدارة القطاع الحكومى من خلال المشاركة

تحديات السياسة العامة فى مصر

هناك مجموعة من القضايا التى ترتبط بخبرة تفعيل دور الحكومة وضرورة التكامل بين هذا الدور، ودور المجتمعات المدنية والقطاع الخاص فى عملية التنمية الاقتصادية والتى يجب أن تُناقش فى ضوء ما يحدث الآن على الساحة الدولية من مستجدات ومتغيرات، وأيضا فى ضوء الخبرات السابقة للدول المتقدمة فى هذا المجال وانعكاس ذلك على الدول النامية عامة ومصر خاصة.

وأهم هذه القضايا التى يجب مناقشتها هى:

1- قضية صنع السياسة Policy making
2- قضية تنفيذ السياسة Policy implementation
3- قضية تقييم السياسية Policy evaluation

1- قضية صنع السياسة Policy making:

الإشكالية الأولى: ما هو دور القوى الخارجية فى صياغة السياسات العامة للبلاد؟

من أهم الموضوعات التى تثار الآن فى مجال عملية صنع السياسة هى الدور الذى تلعبه القوى الخارجية فى صياغة السياسات، حيث تكشف الحقائق عن وزن كبير لدور هذه القوى (البنك الدولى، صندوق النقد الدولى، منظمة التجارة العالمية، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوربى) وأكثر من ذلك أن أحد شروط تقديم المنح والمساعدات يتوقف إلى حد كبير على توجه الحكومة المحلية مع هذه القوى الخارجية ومن النقاط الهامة المرتبطة بعملية صنع السياسة، هو موضوع جماعات المصالح.

الإشكالية الثانية: ما هو تأثير جماعات المصالح على سياسات (الأهداف والوسائل) تحقيق التنمية بكل أنواعها؟

ففى إطار تباين القوية النسبية التى تتمتع بها الجماعات، قد يلعب البعض منها – الذى يتمتع بفاعلية أكبر – دور كبير فى التأثير على عملية صنع السياسة العامة. وكمثال لذلك نذكر أن القوة التى يمثلها القطاع الخاص ومصالحه فى دولة الولايات المتحدة الأمريكية، توجه صانع السياسة فى أمريكا تجاه تحقيق هذه المصالح، وهذا يمثل فى حد ذاته أكبر الضغوط الداخلية على الإدارة الحكومية هناك. كما أن قوة اللوبى الصهيونى تمثل قوة ضاغطة على متخذ وصانع القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية.

وفى مصر، فإن المشاهد هو تأثيرا بشكل ما على صنع السياسة العامة فى مصر قد أخذ فى التزايد خلال فترة العشرين سنة الماضية. والحديث هنا يتجه نحو نقابات العمل من جانب، وجماعات رجال الأعمال من جانب آخر.

فنقابات العمل تتميز بقاعدة ضخمة من الأعضاء (يقتربون من 3 مليون عضواً) وبدرجة محدودة من الفاعلية والتأثير فى صنع السياسة.

بينما جماعات رجال الأعمال تتميز بعدد محدود من الأعضاء (حوالى 1000 عضو) لكنها تتميز بدرجة عالية من الفاعلية والتأثير فى صنع السياسة. هذه الفاعلية نابعة من استقلالها المالى والإدارى وتجانس مصالح أعضائها، مع قدرة غير محدودة على توفير قنوات اتصال قوية بصانع أو صناع القرار.

هذا التباين يطرح بين قوة كل طرف وفاعليته إشكالية فى التعبير عن المصالح وإمكانية الضغط نحو تحقيق أو تبنى سياسة بعينها.

مثلاً قانون المنافسة ومنع الاحتكار collective action ونظراً لغياب الأداء المجمع بين المستفيدين من القانون تبرز الإشكالية التالية هل نحن فى حاجة إلى قانون للمنافسة أم فى حاجة إلى سياسة منافسة؟

2- قضية تنفيذ السياسة Policy implementation:

الإشكالية: التناقص بين ما يقال ويعلن، وبين ما نهدف إليه فعلا وبين الواقع العملى.

تتعلق قضية تنفيذ السياسة، بوجود واقع فعلى أو مناخ اجتماعى وثقافى وسياسى واقتصادى يهيئ لتنفيذ السياسة، وليس مجرد الإعلان عن توفير المناخ بأنواعه المختلفة. فالأعمال هنا ليست بالنيات، ولكن بمقدار ما يتوفر فعلاً وما يتحقق من بيئة مواتية لتنفيذ هذه السياسات.

ولندلل على ذلك نقول بأن مصر أعلنت تكراراً أن واحداً من أهم أهدافها العمل على نقل الاقتصاد المصرى إلى اقتصاد السوق، والحقيقة تؤكد أن ما يعمل الاقتصاد المصرى الآن من خلاله ليس اقتصاداً للسوق بمعناه المعروف.

والمشاهد بالفعل أن اتفاقات مصر الدولية مع صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية، والشراكة مع الاتحاد الأوروبى، والكوميسا فى أفريقيا، ليس سوى التعبير عن نية مصر للعمل من أجل تحرير اقتصادها والتحول من الاقتصاد المركزى إلى اقتصاد السوق، كما أن الزيارات المختلفة للوفود المصرية للولايات المتحدة الأمريكية التى تدعو إلى إقامة منطقة للتجارة الحرة بين البلدين، إنما تتم على أساس أنها سوف تقوم بين نظام رأسمالى فى أمريكا ونظام رأسمالى فى مصر، لأن التاريخ لم يعرف حتى الآن منطقة تجارة حرة ناجحة ما لم تكن حركة السلع والخدمات تتم بحرية بين دول ذات أسواق مفتوحة. ومع ذلك فإنه لا يوجد خارج مصر من يعتقد بأن مثل هذا التحول حادث بالفعل. ولعل التقرير السنوى لمؤسسة “هيرتيج الأمريكية” وتقارير البنك الدولى، تفصح على أن مصر ليست مصنفة ضمن الدول الرأسمالية أو الدول ذات الاقتصاد الحر، بل أنهم يصنفون مصر بين الدول “شبه المقيدة وشبه الحرة”، وهى حالة من الحالات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية أيضا التى تتأرجح فيها الدول على درجات السلم، فلا هى صعدت ولا هى بقيت فى السفح لمواجهة المخاطر.

هذه الإشكالية تبين التناقض بين ما يقال فى مصر وما هو سائد فى العالم.

إن عملية التحول إلى القطاع الخاص واقتصاد السوق ما زال يسير ببطء فى مصر، والحقيقة تظهر كذلك فإذا رجعنا إلى الأساس الذى تقوم عليه حركة الاقتصاد المصرى، وما إذا كانت قوانين الطلب والعرض والتنافسية… الخ من القوانين الرأسمالية عامة، هى المهيمنة والمسيطرة، أم أنها الدولة وأدواتها المركزية هى التى تدير الاقتصاد القومى؟

لن نخالف الحقيقة إذا ما عرفنا أن الإجابة تؤكد بأن النصيب الأكبر من هذه الأدوات لا يزال فى إدارته وتشغيله والتحكم فيه والحفاظ عليه ما زال فى يد بيروقراطية الدولة، والتى لا تتوافر فيها الكفاءات اللازمة لإدارة اقتصاد حر.

إن هذه الإشكالية سببها التفاوت الكبير بين ما نقوله فى مصر وبين ما تهدف إليه وبين ما يقرره العالم، وبين الفكر السائد فى البلاد والذى ما زال يستهجن مصطلح الرأسمالية والخصخصة، وهذا يشكل مناخاً معادياً لفكرة التنمية الاقتصادية المبنية على نظام السوق، كما أنه سينصب على مناخ الاستثمار والذى لا يعادى استثمار الرأسمالية المصرية فقط، بل يعادى وبقوة الاستثمار الأجنبى فى مصر، ولهذا ما زالت الشكوك تزداد حول إمكانية نجاح ذلك فى مصر.

3- قضية تقييم السياسية Policy evaluation:

مما لا شك فيه أن الأداء يعد معياراً أساسيا للتقييم، وهذا الأمر ينبغى ألا يرتبط بأحكام قيمية مطلقة، فليس كل تغيير جيد، وليس عدم التغيير هو سيئ.

وعليه ترتفع قضية الأداء أو الانجاز لتصبح أحد محاور المناقشة حول كيفية توفير تقييم موضوعى ومؤشرات علمية للتقييم؟ وهذه تمثل الإشكالية الثالثة والمتمثلة فى كيفية الحكم على مدى نجاح أو فشل تجربة ما.

وللتغلب على هذه الإشكالية، ينبغى تحقيق عدة شروط أهمها:

أولا: توفير قاعدة دقيقة من البيانات والمعلومات، فمن خلال هذه القاعدة المعلوماتية الدقيقة يمكن البحث فى تطوير مؤشرات التقييم وهذه المؤشرات لابد وأن يتوافر بها عدد من المتطلبات أهمها:

  • قدرتها على تحديد حجم أو قدرة الخدمة والمنتج.
  • قياس كفاءة السلعة أو الخدمة (الجودة والفاعلية).
  • مقارنة نفقة السلعة أو الخدمة.
  • مدى إمكانية الاقتراب accessibility أى وفرتها كمياً وتوزيعها جغرافياً.

ثانيا: توفير اطر تمكن من معرفة رأى المواطن، وضع معايير لخدمة المواطن يتم على أساسها معرفة رأى المواطن فيما يقدم له، وبهذا فقط يكون المواطن هو محور اهتمام متخذى القرار، لأن التقييم سيتم بناء على استطلاع للرأى حول ما يقدم لهؤلاء المواطنين من خدمات.

ولعلنا نخرج من تلك الإشكالية بأمرين:

  • أن ما يعلق من سياسة قد لا يتفق مع المضمون الفعلى لها أو ما ينفذ فعلاً، فإذا كان الخطاب الرسمى المعلن يدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والقطاع الخاص والمجتمع المدنى، فإن عملية التنفيذ قد تسير فى اتجاه مختلف أو أن أردنا الدقة تسير بخطى بطيئة للغاية، والسبب هو الفجوة الكبيرة بين الخطاب الرسمى والتوجه الرسمى والتنفيذ الذى يقوم به مجموعة من البيروقراطيين وأصحاب المصالح والنفوذ الخاص.
  • تعدد القرارات الخاصة بالسياسة العامة بشكل عام والسياسة الاقتصادية بشكل خاص والتى قد تصل إلى حد التناقض أو التضارب فى بعض الأحيان، فمع غياب التكامل بين السياسات، قد تسعى الدولة إلى تشجيع دور القطاع الخاص للإنتاج من أجل التصدير، وقد يواجه ذلك بسياسات إدارية وضريبية وجمركية معوقة عن التنفيذ، ولعل ما صرح به وزير الاستثمار فى مصر مؤخراً من أنه يسعى إلى تعديل قانون الاستثمار من أجل التغلب على ما وضح فى المشروع الذى يدرس الآن لتعديل قانون الضرائب فى مصر، معنى ذلك أن مشروع قانون الضرائب يحتوى على بعض بنود هى ضد تشجيع الاستثمار الأجنبى.

مع تزايد طموحات المواطنين فى دور وإمكانية الحكومة فى تحقيق التنمية المستدامة وذلك فى ظل المستجدات المعاصرة على البيئة العالمية من جات وعولمة وما خلفته من تحديات جسام على اقتصاديات هذه البلدان والقضاء على مشاكل الفقر والبطالة من خلال المشاركة وتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تلعب الإدارة المجتمعية أو الحوكمة دوراً هاماً فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى أى بلد، فهى تمثل منظومة متكاملة يشارك فيها القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدنى مع القطاع الحكومى فى تحديد الأطر ورسم الأدوار لكل جزء من هذه المنظومة، وذلك من خلال المبادئ الأساسية التى ترتكز عليها الحوكمة والمتمثلة فى الشفافية والمساءلة والمشاركة فى تحمل المسئولية وفى رسم السياسات وتعزيز دولة القانون واللامركزية لتقريب صنع القرار من المواطنين.

إذن فالحوكمة تهتم إذن بكيفية مشاركة العناصر الأخرى الفاعلة فى عملية اتخاذ القرارات فى الشئون ذات الاهتمام العام. غنها أحد التوجهات الجديدة لعملية التغيير والإصلاح فى الإدارة الحكومية والتى يجب أن تكون هى المبادرة لعملية الإصلاح والتحول. ومعنى ذلك أن الحوكمة هى الدور الجديد الذى يجب على الحكومة أن تمارسه فى ظل بيئة دولية متغيرة يتحدد من خلال هذا الدور إلى أين سنتجه ومن هم الذين يجب أن يشاركوا فى اتخاذ القرار ومكانتهم وقدرتهم على المشاركة.

إن الحوكمة تعنى إذن إدامة المجتمع من خلال عدم الانعزال عن المواطنين والبعد قدر الإمكان عن البيروقراطية، ومن ثم يعد هذا المصطلح انسلاخاً من فكرة الحكومة، ولعل هذا الأمر يعكس إلى حد كبير مدى أهمية دور الحكومة فى تفعيل عملية التفاعل بين الحكومة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، وكيف ينعكس ذلك فى ربط تلك الأطراف بالمواطنين الذين يمثلون أصحاب المصلحة الحقيقية، ولهذا جاء مفهوم البنك الدولى للحوكمة “بأنها الحالة التى من خلالها يتم إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع بهدف تحقيق التنمية المستدامة فى ظل صوت مسموع واهتمام عام بآراء المواطنين وتفضيلاتهم”.

وعلى هذا فالحوكمة تمثل الاتجاه الجديد للإدارة الحكومية والمتمثل فى تصغير الحجم downsizing وتمكين العاملين empowerment وتحقيق المنافسة والاستفادة المثلى من المنح والمعونات وحُسن استثمار الموارد فى ظل مشاركة فعالة للمنظمات الأهلية والقطاع الخاص فى محاولة لرفع مستوى معيشة ورفاهية المواطنين.

وهذا يؤكد على أن الحكومة لم تعد هى الفاعل الوحيد فى عملية التنمية وأن هناك مفهوم للمشاركة فى عملية التنمية.

على أن تحقيق ذلك يتطلب خلق مناخ اجتماعى ديمقراطى تتفاعل فيه كافة الأطراف ومكوناتها المؤسسية لتحقيق مستوى معيشى أفضل لجميع أفراده.

يتحقق كل ذلك فى ظل دور الدولة، دور دولة القانون، والإدارة الواضحة التى يمكن التنبؤ بسياساتها والسلطة التشريعية واستجابة الإجراءات للطموحات، ومن هنا فإن دور الدولة أو وظيفتها الأساسية ستتمثل فى إعداد البيئة المناسبة والمساعدة لعملية التنمية.

ولكن تبقى أسئلة تثار تمثل إشكالية أو إشكاليات نحو تحقيق الإدارة المجتمعية بالكفاءة المطلوبة هذه الأسئلة تتمثل فى:

  • هل يدرك المواطن شرعية قوة السلطة العامة؟
  • هل المواطن هو محور اهتمام متخذى القرار؟
  • هل البرامج المجتمعية مبنية على رغبات المواطنين؟
  • هل هناك تكييف من قِبل السلطات لاحتياجات المواطنين فى توزيع المال العام؟

إن الإجابة على هذه التساؤلات قد يعين على رسم الطريق أو وضع الإطار المرجعى للعمليات والممارسات المستقبلية للإصلاح المؤسسى ولتحسين مستوى الإدارة على مستوى المجتمعات النامية.

ومن خلال ذلك فقط يمكننا الحكم على مدى نجاح أو فشل تجربة الإدارة المجتمعية فى معظم البلاد النامية والمتقدمة.

فهل الحكومة فى مصر مهتمة بقضايا المواطن أم أنها تبدو من وجهة نظرهم قضايا صغيرة؟

وهل يحقق القادة الحكوميون طموحاتهم من خلال مواقعهم لتعزيز طموحاتهم الشخصية بدلا من تحقيق طموحات المواطنين؟

هل المشاركة والمبادأة من جانب المواطنين تمثل البديل الأمثل عندما لا تبادر الحكومة بالعمل أو أخذ المبادرة؟ فهناك من يلجئون إلى العمل سوياً وإلى جمع التبرعات لبناء مدرسة أو مستوصف أو تنظيف شارع أو تنظيم مرورى.

إذا حدث ذلك فستصبح الحكومة مجرد شريك بين شركاء عديدين فى إدارة شئون الدولة والمجتمع، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى إعادة النظر فى أدوار الحكومات، القطاع الخاص والقطاع المدنى.

وهذا كله يتوقف فى البداية على نشر ثقافة الاختيار ومن بعدها ثقافة التنمية، حتى يستطيع المواطن أن يعتاد على كيفية الاختيار ثم يعتاد على أن يصبح عنصراً فاعلاً ومؤثراً وقبل كل ذلك مشاركاً فى عملية التنمية الاقتصادية التى هو فى الأساس هدفها ووسيلتها، وهذا ما تثيره إشكالية أخرى اخطر وأهم وهى إشكالية الأمية بكافة أنواعها… فهل الأمية تبيح للمواطن أن يبحث عن حقوقه والتزاماته أم أنه مجبر؟

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق