الدولي للاستشارات الاقتصادية : استراتيجيات التصنيع في البلدان النامية والدروس المستفادة

استراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات الاتجاه إلى التصدير

#الدولي للإستشارات الاقتصادية ودراسات الجدوى 

بحث للأستاذ الدكتور محمد  عبدالحليم يونس أستاذ الاقتصاد وعميد تجارة الأزهر والمستشار الاقتصادي بالمركز 

استراتيجيات التصنيع في البلدان النامية والدروس المستفادة

تحتوى الاستراتيجيات التصنيعية على الأولويات القطاعية،أى الصناعات التي يراد تنشيطها، مع مجموعة السياسات الاقتصادية اللازمة للتنفيذ.ولقد أحتل نوعان من الاستراتيجيات التصنيعية موقع الصدارة في البلدان النامية:

أولاً: استراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات (أو ذات الوجهة الداخلية)

ثانياً: استراتيجيات التصنيع التصديرى (أو ذات الوجهة الخارجية)

والأولويات القطاعية في الحالة الأولى هي الصناعات التي تحل محل الواردات، وأدوات السياسات الاقتصادية هي حمائية في المقام الأول.أما في ظل الاستراتيجية الثانية فإن الأولويات القطاعية هي للقطاعات التصديرية التي تتمتع فيها البلد بمزايا تنافسية مقارنة، والسياسات الاقتصادية المتبعة هي في مجملها أدوات لتعزيز القدرات التنافسية لهذه الصناعات.

أولاً: استراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات

كانت البداية التصنيعية في العديد من البلدان النامية هي التصنيع بإنتاج سلع (استهلاكية في أغلب الأحوال) مكان السلع المستوردة.وكان أحد الدوافع الذى أعطى هذه الاستراتيجية إغراءً خاصاً هو وجود الطلب الذى كان يتوجه سلفاً نحو السلع الأجنبية. وبالتالى فقد كان منطق التصنيع في الدول النامية بعد الحرب الثانية هو إنتاج هذه السلع محليا. وفى أغلب الصناعات التي شملتها هذه الاستراتيجية كان يتم استيراد الأجزاء المختلفة للسلع (كأجزاء السيارات) ويقتصر التصنيع المحلى على خطوط التجميع (أى تجميع هذه الأجزاء) وذلك على أمل أن يخطو التصنيع خطواته بعد ذلك نحو تصنيع المكونات أو السلع الوسيطة الداخلة في المنتجات النهائية.

وقد تتطلب تطبيق استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات سياسة حمائية خاصة وذلك بفرض تعريفات جمركية عالية أو مانعة على السلع المستوردة المنافسة، وفى نفس الوقت تخفيض التعريفات إلى حد كبير أو إلغائها على السلع الوسيطة أو السلع الرأسمالية أو قطع الغيار للصناعة المحلية لاستبدال الواردات. ولقد منح هذا النوع من الحماية – حماية المنتج النهائى بالتعريفات وإعفاء المستلزمات المستوردة من التعريفات-قدرا كبيرا من الحماية الفعلية المنتج، وأكبر بكثير مما تفصح عنه مجرد قراءة التعريفة الاسمية على المنتج النهائى. فالمنتج المحلى الذى تفرض على السلع المنافسة له والمستورة تعريفة قدرها 80% وتعفى مستلزماته المستوردة من التعريفات الجمركية يحظى بلا شك بحماية فعلية أكبر مما لو كانت نفس التعريفة تفرض على السلع المستوردة المنافسة (معدل 80 %) ولكن مع إخضاع المستلزمات لتعريفات جمركية.

ومن الناحية العملية كانت السلع التي بدأت بها استراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات في أغلب البلدان النامية هي السلع الاستهلاكية. وهنا كأسباب عديدة وراء تفضيل البلدان النامية البدء بالسلع الاستهلاكية وليس السلع الوسيطة أو الرأسمالية. والسبب الأول هو بالطبع بساطة التكنولوجيا وانخفاض درجة الخبرة والمهارات المطلوبة، مقارنة بالسلع الوسيطة أو الرأسمالية. ويرتبط بذلك مباشرة أن بداية التجربة التصنيعية وما يرتبط بها من انخفاض الجودة أو ارتفاع التكلفة ستكون بالطبع أقل ضررا في مجال السلع الاستهلاكية – فالأخطاء أو ارتفاع التكلفة في حالة السلع الوسيطة أو الرأسمالية كانت ستنعكس بالضرورة على العديد من السلع الأخرى. كما أن هناك طلبا قائما بالفعل على السلع الاستهلاكية التي تخضع للتصنيع باستبدال الواردات ويراد توجيهه نحو الإنتاج المحلى. هذا بينما أن الطلب على السلع الرأسمالية أو السلع الوسيطة فقد لا يكون موجودا بعد من الناحية الفعلية، فهو يتوقف في جانب هام منه على محتوى الخطة الاقتصادية القومية والمشروعات التي ستقيمها، وبالتالى فربما لا يزال طلبا على الورق.

أ- ملامح استراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات

هناك عدد من الخصائص البارزة التي تميز استراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات، والتي تتعلق بالنواحى التاريخية أو الصناعات التي تشملها أو النتائج التي ترتبت عليها.

1) استبدال الواردات من المنظور التاريخى

استبدال الواردات معناه كما رأينا إنشاء تسهيلات إنتاجية لتصنيع السلع التي كانت تستورد سلفا من الخارج.والمشاهد في هذا الخصوص من الناحية التاريخية أن كل البلدان التي قامت بالتصنيع بعد إنجلترا قد مرت بشكل أو بآخر بمرحلة التصنيع باستبدال الواردات.

فبعد قيام الثورة الصناعية في إنجلترا والزعامة الصناعية العالمية لهذه البلد، حدثت موجة للتصنيع باستبدال الواردات في البلدان الأوربية الأخرى والولايات المتحدة في النصف الثانى من القرن التاسع عشر. ولقد تميز التصنيع باستبدال الواردات في هذه الحقبة بعدد من السمات البارزة. فمن الحقائق المعروفة أن الحكومات في هذه المرحلة التاريخية المبكرة لاستبدال الواردات قد قامت بدور نشط في تشجيع وحماية الصناعات الناشئة. ومن الخصائص الهامة أيضاً لاستبدال الواردات كما حدث في القرن التاسع عشر هو طبيعته القومية. ونعنى بذلك أن الصناعة في جزئها الأكبر كانت في أيدى الوطنيين. إلا أن صفة الملكية الوطنية للقطاع الصناعي لا تنفى أن البنية الأساسية في بعض البلدان كان يتم تمويلها من الخارج، ولكن ظلت الصناعة كما قلنا في أغلبها في يد الوطنيين. ونظراً للريادة الصناعية لإنجلترا في ذلك الوقت، فقد كان يتم استيراد الآلات وتصميم الآلات والعمالة الماهرة لتشغيل الآلات في أغلب الأحوال من إنجلترا.ولقد ظهر في ذلك الوقت من المفكرين الاقتصاديين من يدافع عن حماية الصناعة الناشئة في وجه المنافسة الخارجية، وذلك على خلاف مبدأ الحرية الاقتصادية الذى كان سائدا في إنجلترا. ومن أعلام هؤلاء المفكرين الكسندر هاملتون في الولايات المتحدة وشار ليست في ألمانيا.

وهنا يثور تساؤل له مجاله: لما تأخر البدء في التصنيع باستبدال الواردات في البلدان النامية؟ما هي الأسباب التاريخية التي يمكن أن توضح لماذا لم تبدأ بلدان أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في نفس الوقت الذى بدأ فيه البلدان الغربية أو بعد ذلك مباشرة؟ إن التفسير يختلف بين بلدان آسيا وأفريقيا من ناحية وأمريكا اللاتينية من ناحية أخرى.

بالنسبة لبلدان أفريقيا وآسيا تعطى السياسات الاستعمارية التي انتهجتها أوربا إزاء هذه البلدان قدراً كبيراً من التفسير. تلك السياسات التي دأبت على وأد أى محاولة للتصنيع في هذه البلدان حتى تظل سوقاً رائجة للبلدان الأوربية ومصدراً مستديماً للمواد الخام.

أما في بلدان أمريكا اللاتينية فإن الهيكل الاقتصادى والاجتماعى الذى كان سائداً في هذه البلدان آنذاك هو الذى يعطى الجزء الأكبر من التفسير. فالواقع أن وجود أسواق خارجية مغرية لتصدير المواد الأولية والتى أفادت الفئات المحظوظة كان يعنى عدم وجود أى دافع سياسى لتغيير هيكل هذه الاقتصاديات من الإنتاج الأولى إلى الإنتاج الصناعى. أضف إلى ذلك أن أمريكا اللاتينية كان ينقصها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عددا من المقومات التصنيعية الهامة التي يمكن أن يستند إليها التوسع الصناعي الكبير. فقد كانت تفتقد مهارات القيام بالمشروعات والقوى العاملة المدربة والأسواق الكافية والبنية الأساسية وكفاءة الإدارة العامة. وأخيراً كان للبلدان الأوربية القدرة الكافية في بعض الأحيان على الإبقاء على حرية التجارة في هذه البلدان. الأمر الذى يعنى في حقيقة الأمر أن يوصد الطريق أمام أى تصنيع باستبدال الواردات وذلك إذا ما تذكرنا أن الحماية هي الصفة الملازمة لهذا النوع من التصنيع.

ولقد أدت ظروف الحرب الأولى وأحوال الكساد الكبير في السنوات الثلاثين من القرن العشرين والحرب الثانية بعد ذلك إلى إحداث دفعات واضحة للتصنيع باستبدال الواردات في أغلب بلدان أمريكا اللاتينية الكبيرة. فالواقع أن توقف الإمدادات وكذلك انخفاض الإنتاج غير الحربى في أوربا والولايات المتحدة قد خلق نقصا حادا في السلع الصناعية المستوردة في أمريكا اللاتينية وأدى إلى رفع أسعار هذه السلع. وكل ذلك ساهم في زيادة جدوى الاستثمار في الصناعة التي تحل محل الواردات. وكانت المنسوجات والمنتجات الغذائية وغيرها من السلع الاستهلاكية الخفيفة هي المجال الأساسى للتصنيع باستبدال الواردات في هذه الفترة.

ولكن لم يصبح التصنيع باستبدال الواردات سياسة مخططة للتنمية الاقتصادية والصناعية إلا بعد الحرب الثانية حيث طغى هذا الشكل التصنيعى في غالبية البلدان النامية. وشهدت السنوات الخمسين وأوائل السنوات الستين من القرن الماضى تنفيذ سياسات مخططة على نطاق واسع لاستبدال الواردات في البلدان النامية في أمريكا اللاتينية وعدد من البلدان الهامة في جنوب وجنوب شرق آسيا، مثل الهند وباكستان والفلبين. ثم شهدت السنوات الستين بداية استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات في عدد من البلدان الأفريقية الهامة (مثل نيجيريا وكينيا وغانا وزامبيا) وبلدان أمريكا اللاتينية الأخرى والبلدان الصغيرة في جنوب وشرق آسيا.

ب- التسلسل التصنيعى في التصنيع باستبدال الواردات

التصنيع باستبدال الواردات عن طريق الإنتاج المحلى للسلع الصناعية التي كانت تستورد سلفا هو كما يبدو لأول وهلة الوسيلة المباشرة لخلق القاعدة الصناعية المحلية. إلا أنه يوجد في إطار الاستراتيجية العامة للتصنيع باستبدال الواردات من حيث المبدأ عدد من الخيارات أما البلد التي تنتهج هذه الاستراتيجية.

الواقع أن النقد الأجنبى الذى يتم توفيره بالاستغناء عن السلع الأجنبية المستوردة يمكن توجيهه وجهات متعددة، نذكر منها خيارات على سبيل المثال:

الخيار الأول: تستطيع البلد النامى استخدام النقد الأجنبى لشراء السلع الرأسمالية الإنتاجية (المواد الخام والوقود.. الخ) لتصنيع السلع الاستهلاكية (الملابس)

الخيار الثانى: ولكن البلد النامى يمكنها أيضا استخدام النقد الأجنبى لشراء السلع الرأسمالية، في شكل معدات آلية، وذلك للإنتاج المحلى للسلع الاستثمارية وكان البعض ينظر إلى استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات على أنها تشمل مراحل متصلة في شكل تسلسل تصنيعى يبدأ من الإنتاج المحلى للسلع الاستهلاكية، وينتقل بعد ذلك إلى إنتاج السلع الوسيطة والرأسمالية.ولكن التجارب أثبتت صعوبة تحقق ذلك من الناحية العملية.فالواقع أن غالبية البلدان النامية قد انتهجت الخيار الأول المشار إليه آنفا، وهو الخيار الخاص بإنتاج السلع الاستهلاكية محليا. ثم ظلت عند هذه المرحلة من التصنيع لا تتعداها. ولكن بعض البلدان النامية الأكثر تقدما تخطت ذلك إلى المراحل التالية للتصنيع. فهناك عدد من البلدان النامية (مثل الهند والبرازيل والمكسيك) والتى أنشأت لها صناعات متنامية للسلع الرأسمالية . 

المرحلة الأولى للتصنيع باستبدال الواردات

وهى مرحلة إنتاج السلع الاستهلاكية البسيطة، تحت مظلة الحماية الجمركية من منافسة السلع الأجنبية. والحقيقة التاريخية التي تذكر في هذا الخصوص هي أن كل البلدان على حد سواء، النامية منها والتى غدت الآن دولا صناعية متقدمة، قد لجأت إلى أسلوب الحماية للصناعة القومية الناشئة التي تنتج للسوق المحلى. والاستثناءان البارزان الذى يذكرهما لنا التاريخ هو إنجلترا إبان الثورة الصناعية، حيث كانت البلد الرائدة في التصنيع وحيث لم تواجه في البداية أى منافسة من أى بلد سبقتها، وهونج كونج في العصر الحديث.

وهناك مع ذلك اختلاف بين البلدان النامية والبلدان الصناعية في تاريخها السابق. فبينما استخدمت البلدان الصناعية فيما مضى التعريفات الجمركية المنخفضة نسبيا، فإن البلدان النامية اعتمدت في أغلبها على التعريفات الجمركية المرتفعة والقيود الكمية على الواردات، الأمر الذى حد من السلع المستوردة المنافسة بدرجة كبيرة إن لم تستبعدها كلية.

وهذه المرحلة الأولى لاستبدال الواردات تتضمن الإنتاج المحلى مكان الواردات للسلع الاستهلاكية غير المعمرة، مثل الملابس والأحذية والأدوات المنزلية، وكذلك مستلزمات إنتاج هذه السلع مثل الغزل والجلود والأخشاب. وهذه السلع تناسب ظروف البلدان النامية في المراحل الأولى للتصنيع، وهو أمر يرجع لعدة أسباب:

فهى صناعات كثيفة للعمل، خاصة العمل غير الماهر، وبالتالى فهى لا تحتاج لمستلزمات رأسمالية ضخمة أو مهارات فنية وإدارية كبيرة.

كما أنها تتميز بانخفاض الحجم الاقتصادى للوحدات الإنتاجية.

ويرتبط بذلك أن هذه الصناعات لا تتسم بدرجة كبيرة من وفورات الحجم، بمعنى أن تكلفة الإنتاج المتوسطة لا تنخفض كثيرا مع زيادة حجم الإنتاج. وهذا يعنى على وجه الخصوص وبمفهوم المخالفة أن تكاليف الإنتاج لن ترتفع بدرجة كبيرة إذا ما أريد الاقتصار على أحجام منخفضة من الإنتاج لأسباب تتعلق بضيق السوق المحلى.

كما أن من الخصائص الهامة لهذه الصناعات أنها ذات تكنولوجيا بسيطة.

وأخيراً، فإن الكفاءة في سير العمليات الإنتاجية لمثل هذه الصناعات ليست مرهونة بوجود شبكة واسعة من الموردين للأجزاء أو قطع الغيار.

وتفسر المزايا النسبية الواضحة التي تتمتع بها البلدان النامية في هذه التشكيلة من السلع الصناعية عند بداية التصنيع فيها الإشارة المتكررة إلى هذه المرحلة على أنها “المرحلة السهلة” في التصنيع باستبدال الواردات.

مفترق الطرق في التصنيع باستبدال الواردات

تصل عملية التصنيع باستبدال الواردات إلى منتهاها عندما يحل الإنتاج المحلى تماماً مكان السلع التي تستورد سلف. ويقتضى الإبقاء على العزم التصنيعى بعد ذلك إما التوجه إلى التصنيع التصديرى أو الخطو إلى المرحلة التالية للتصنيع باستبدال الواردات كما هو واضح من الشكل التوضيحى رقم 1).

وحسب ما تظهره التجربة التصنيعية للبلدان النامية، فضلت العديد من هذه البلدان النامية،خيار التصنيع ذى الوجهة الداخلية، ورأت أن الوفر في النقد الأجنبى أسهل من الحصول على النقد الأجنبى من خلال تصدير السلع الصناعية. فالواقع أن سوق السلع الذى سيتم إنتاجها محلياً معروف وموجود سلفاً، كما أنه يسهل حماية السوق المحلى. هذا في حين أن تصدير السلع الصناعية يحتاج إلى اختراق أسواق جديدة في الخارج، وكذلك تصميم وتنفيذ سياسات ناجحة لتنشيط الصادرات. ولم يكن الطريق الأيسر هو أنجح الطرق كما سنرى على أى حال عند تقييم استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات.

وتتضمن المرحلة الثانية لاستبدال الواردات إحلال الإنتاج المحلى للسلع الاستهلاكية المعمرة أو السلع الوسيطة أو السلع الرأسمالية (المعدات والآلات) محل واردات هذه السلع. وهذه المنتجات لها خصائص تختلف تمام الاختلاف عن خصائص المنتجات التي شكلت الاهتمام الأساسى للمرحلة الأولى لاستبدال الواردات، وذلك من عدة وجوه:

فالسلع الوسيطة مثل البتروكيماويات والصلب تتميز بالكثافة الرأسمالية العالية، كما أن العملية الإنتاجية تتميز بأهمية وفورات الحجم،الأمر الذى يؤدى إلى كبر الحد الأدنى الاقتصادى للوحدة الإنتاجية بالنسبة لحجم السوق المحلى في عديد من البلدان النامية. 

كما يؤدى ذلك إلى ارتفاع التكاليف عند الحد المستويات المنخفضة للإنتاج، وانخفاض الكفاءة الفنية والتنظيمية التي تتسم بها عادة البلدان النامية تساهم أيضا في رفع تكلفة الإنتاج.

السلع الرأسمالية مثل الآلات، تخضع هي الأخرى لوفورات الحجم. ولكن وفورات الحجم في مثل هذه الصناعات لا تنشأ من كبر حجم الوحدة الإنتاجية بقدر ما ترجع إلى التخصص الأفقى والرأسى.

والتخصص الأفقى معناه خفض تشكيلة المنتجات لنشاط صناعى معين. وهو أمر يؤدى إلى إطالة الوردية الإنتاجية، مما يسفر عنه تحسين الكفاءة الصناعية نتيجة التعلم بالممارسة في إنتاج عدد أقل من السلع، وكذلك في خفض النفقات التي يتجشمها المصنع في الانتقال من عملية إنتاجية إلى أخرى، مع إمكانية استخدام الآلات المتخصصة.أما التخصص الرأسى فمعناه أن يتم إنتاج الأجزاء والمكونات في وحدات إنتاجية مستقلة، وحدات ذات حجم اقتصادى. وهذا التخصص الرأسى يؤدى إلى خفض النفقات من جراء تقسيم العملية الإنتاجية المتتابعة بين وحدات إنتاجية مستقلة ذات حجم اقتصادى.

إلا أن هذه المرحلة للتصنيع باستبدال الواردات قد واجهت عوائق جمة في البلدان النامية. فضيق السوق الذى يميز كثيراً من البلدان النامية لم يسمح بالاستفادة القصوى من التخصص الأفقى والرأسى. ونذكر هنا أن ضيق السوق أو سعته لا يقيسها فقط عدد السكان، بل القوة السوقية التي يمتلكونها، أى متوسط دخل الفرد.ثم أن إنتاج الأجزاء والمكونات وقطع الغيار في مجال إنتاج السلع الاستهلاكية المعمرة يجب أن يتم بالدقة اللازمة، وهو أمر يصح على وجه الخصوص بالنسبة للمعدات والأدوات، ويقتضى ذلك توفر العمالة الماهرة واستخدام التكنولوجيا المتقدمة.

2- خصائص استراتيجيات التصنيع ذات التوجه الداخلى

رغم وجود اختلافات لا شك فيه في الصور التي بها تطبيق استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات بين البلدان النامية من الناحية العملية، فقد كان هناك عدد من القسمات المشتركة:

أ- من حيث أدوات السياسة الاقتصادية المستخدمة:

كانت التعريفات الجمركية الحمائية على السلع المستوردة المنافسة للإنتاج المحلى أو الحصص الجمركية هي الأدوات الأساسية للسياسات الاقتصادية، وإن كان يساند ذلك مجموعة من الأدوات الأخرى.من ذلك تخفيض التعريفات الجمركية على مستلزمات الإنتاج للسلعة الداخلة في مجال التصنيع باستبدال الواردات. كما استخدمت سياسات الصرف (أساليب الرقابة على الصرف) المختلفة والتى تضمن معاملة متميزة في الحصول على النقد الأجنبى المتاح للقطاعات التي حظت بالأولوية. مثل ذلك منح أسعار صرف تفضيلية (فى إطار نظام أسعار الصرف المتعددة) للمواد الخام الصناعية والوقود والسلع الوسيطة عند استيرادها من الخارج متى لبت حاجة الصناعات التي تدخل في عداد الصناعات المستبدلة للواردات. كما منحت تفضيلات خاصة للمنشآت المحلية أو الأجنبية التي تستورد السلع الرأسمالية لمثل هذه الصناعات. وشملت أدوات السياسات الاقتصادية أيضا منح القروض بشروط ميسرة أو أسعار فائدة تفضيلية من جانب بنوك التنمية الحكومية للصناعات التي تحل الإنتاج المحلى مكان الواردات.

ب- تحول الحماية المؤقتة إلى حماية مستديمة

بينما تطالب الحجج المساندة للصناعة الناشئة بالحماية المؤقتة ريثما تتمكن الصناعة المحلية من الوقوف على قدميها في وجه المنافسة الأجنبية، فإن الحماية في ظل التصنيع باستبدال الواردات أخذت طابع الحماية المستديمة. ويرجع ذلك إلى امتزاج عاملين: الأول، هو أن تجربة التصنيع باستبدال الواردات قد أسفرت عن صناعة منخفضة الكفاءة، الأمر الذى يعنى في الواقع أنها لم تستطع الوقوف على قدميها ومن ثم مواجهة السلع المنافسة من الخارج. والثانى، هو المصالح المترسخة التي كانت تستفيد من الحماية – المنتجون مثلا الذين كانوا يعملون خلف الحماية الجمركية – والتى رأت في الحماية نفعا مستمرا لها فسعت إلى ترسيخها.

ج- إهمال الاستراتيجية لعلاقات الترابط الصناعي بين القطاعات

الصناعات المحلية التي كانت تعمل في ظل الحماية الجمركية كانت تنتج منتجات تدخل كمستلزمات في صناعات أخرى.ومعنى هذا أنه إذا كانت هذه الصناعات المحلية قليلة الكفاءة فستنعكس ذلك بالضرورة على الأنشطة التي تستخدم هذه المنتجات كمواد وسيطة. وتذخر تجربة التصنيع باستبدال الواردات للبلدان النامية بالعديد من الأمثلة في هذا الخصوص: فالإنتاج الردىء للأسمدة مثلا يؤثر على كفاءة القطاع الزراعي، والصودا الكاوية تؤثر بنفس الكيفية سلبا على الإنتاج المحلى لصناعة الصابون (كما تدل على ذلك تجربة الأرجنتين)، والتكلفة المرتفعة للإنتاج المحلى للصلب تؤدى إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج المحلى للصناعات المستخدمة للصلب (تجربة بلدان السوق الأوربية في الثمانينات من القرن الماضى مثال عام الدلالة، وإن لم يكن بالطبع في إطار التصنيع باستبدال الواردات).

د- سيادة سوق البائعين:

كما تميزت الصناعات في البلدان التي طبقت استراتيجيات التصنيع ذى الوجهة الداخلية بسيادة سوق البائعين، وهو الوضع الذى يكون الغلبة السوقية فيه للبائعين (الشركات المنتجة) وليس المشترين. ويرجع ذلك إلى انخفاض المعروض بالنسبة للمطلوب من ناحية، وقلة عدد المنشآت العاملة من ناحية أخرى نتيجة صغر حجم السوق الوطنى لعديد من البلدان النامية. وقد حد ذلك بدرجة كبيرة من فرص المنافسة المحلية، حيث كان يمكن لمنشأة واحدة أو عدد قليل من المنشآت أن تغطى السوق الوطنى، هذا الذى استبعدت فيه فرص المنافسة الخارجية بمنطق التصنيع باستبدال الواردات- وهو تصنيع ذو وجهة داخلية يفرض تعريفات حمائية عالية أو مانعة على المنتجات المستوردة المنافسة.

وفى حالة سوق البائعين، لا يوجد بالطبع الحافز الكافى من جانب المنتجين لمحاولة تلبية رغبات المستهلكين أو محاولة إرضاء أذواقهم.كما لا يتوافر الدوافع القوية للمنشآت في حالة سوق البائعين لمحاولة خفض التكاليف أو تحسين الجودة أو زيادة الإنتاجية لانتفاء عنصر المنافسة.

هـ: دور ثانوى للأسعار

الأسعار التي يمكن أن تؤدى دورها كحوافز اقتصادية أو مؤشرات لتوجيه الموارد والنشاط الاقتصادى لم تقم في البلدان النامية التي ساد فيها منهج التصنيع ذى الوجهة الداخلية إلا بدور ثانوى. فقد كان الاعتماد الأكبر في توجيه النشاط الاقتصادى واتخاذ القرارات يقع على عاتق الإجراءات غير السعرية، كالقيود الكمية على الاستيراد (الحصص) أو توزيع الائتمان حسب الأولويات القطاعية (تفضيلات عالية للصناعات التي تحل محل الواردات)أو توزيع حصص النقد الأجنبى (بنظام الرقابة على الصرف).

3- الانتقادات التي وجهت لاستراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات

واجهت استراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات سهام النقد العديدة من كافة الاتجاهات والمشارب، وذلك من واقع التجربة التصنيعية للبلدان النامية التي سلكت طريق التصنيع ذى الوجهة الداخلية.وهذه الانتقادات رغم تعددها تدور حول عدد من المحاور الأساسية: تحيز واضح لهذه الاستراتيجية ضد القطاع التصديرى والقطاع الزراعي،كما أن هذه الاستراتيجية لم تعمل لصالح الكفاءة الصناعية في القطاعات التي شملتها، كما أنها لم تؤدِ، وعلى ما قد يبدو في هذا القول من غرابة، في خفض كبير في الواردات أو وفر حقيقى في النقد الأجنبى. ونفصل هذا القول الموجز بعض الشىء فيما يلى:

أ) استبدال الواردات والقطاع الزراعى

كان للسياسات التي استخدمت لتنشيط القطاع الصناعي في إطار استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات آثار ضارة على القطاع الزراعي من نواحى متعددة.فالواقع أن هذه الاستراتيجية بالشكل الذى طبقت به كانت تحمل بين جوانبها صورا مختلفة للتحيز ضد القطاع الزراعى:

ارتفاع أسعار السلع المصنعة نتيجة الحماية وانخفاض الكفاءة الصناعية، وكذلك انخفاض جودة المنتجات المصنعة محليا ورداءتها، يعنى في نفس الوقت ارتفاع تكلفة الإنتاج الزراعي والتكاليف التي يتحملها المزارعون بوجه عام، كما يتمثل ذلك على وجه الخصوص فيما يلى:

شراء أهل الريف للسلع الاستهلاكية المنتجة محلياً.

وكذلك شراء القطاع الزراعي للسلع الصناعية المنتجة محلياً والتى تستخدم كمواد خام أو سلع وسيطة أو سلع رأسمالية (أسمدة مثلا أو آلات زراعية)

ثانيا: هذا بالإضافة بالطبع إلى أن السياسات الزراعية التي صاحبت مسيرة التصنيع باستبدال الواردات قد دأبت على خفض أسعار السلع الزراعية لضمان الغذاء الرخيص للعمال الصناعيين في الحضر والمواد الخام الزراعية الرخيصة للقطاع الصناعى.

فكأن القطاع الزراعي واجه في ظل هذه الاستراتيجية التصنيعية مشكلة مزدوجة: ارتفاع تكاليفه من ناحية وانخفاض إيراداته من ناحية أخرى، وهو انعكاس لما يسميه الاقتصاديون تحرك نسب التبادل بين القطاع الزراعي والقطاع الصناعي (أى الأسعار الزراعية مقارنة بالأسعار الصناعية) في غير صالح القطاع الزراعى. كل ذلك قد أثر على ربحية القطاع الزراعي وجدوى الاستثمار في المشروعات الزراعية.

ثالثا: ساد في ذلك الوقت تضخيم لأسعار صرف العملة الوطنية مقومة بالعملة الأجنبية، أى حساب لأسعار العملة الوطنية بأعلى من قيمتها الحقيقية، والذى كان يعد في حقيقة الأمر صفة ملازمة للتصنيع باستبدال الواردات (نتيجة ندرة النقد الأجنبى وأساليب الرقابة على الصرف).ولقد أفاد ذلك القطاع الصناعي الذى يعمل خلف الأسوار الحمائية لأنه يوفر مستلزمات الإنتاج المستوردة بتكلفة منخفضة، إلا أنه يضر بالزراعة بجعل منتجاتها أقل قدرة على المنافسة في الأسواق الدولية. إن تقييم العملة الوطنية بأعلى من سعرها الحقيقى عامل يعمل يكبل من الفرص التصديرية على نحو ما سنوضحه بعدل قليل.

وكل العوامل السابقة قد أضرت بالقطاع الزراعي، وهو ما يشكل ظاهرة عامة في كل البلدان النامية التي أخذت باستراتيجية التصنيع باستبدال الواردات. وربما كان المثال البارز في هذا الأمر هو الأرجنتين،خاصة في مجال إنتاج وتصدير اللحوم، حيث كانت الأرجنتين من كبريات البلدان المنتجة.

(ب) التحيز ضد القطاع التصديرى

يمكن القول بأن هناك عاملين يفسران التحيز ضد القطاع التصديرى في ظل استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات.العامل الأول يفسر التحيز ضد الصادرات بوجه عام، والثانى يفسر التحيز ضد الصادرات الصناعية على وجه الخصوص.

أولا: فمن ناحية، نجد أن تضخم سعر صرف العملة الوطنية الذى كان صفة ملازمة لهذه الاستراتيجية يعطى حافزا للاستيراد، ولكنه يمثل عنصر تثبيط للصادرات. فهو في واقع الأمر بمثابة ضريبة موحدة على الصادرات وإعانة موحدة على الواردات.ولنعطى لذلك مثالا مبسطا. لنفترض أنه في ظل تضخم سعر صرف الجنية المصرى (التحديد الرسمى لسعر العملة الوطنية) فإن الدولار الواحد يساوى جنيهين (1 دولار = 2 جنيه مصرى، وهو ما يعنى أن الجنيه = 1/2 دولار). هذا في حين لو ترك سعر الصرف حراً يتحدد بقوى العرض والطلب فإن سعر الصرف التوازنى سيصبح 4 جنيهات للدولار (بما يعنى انخفاض سعر الجنية من 50 سنتا إلى 25 سنتا). لنفترض أن هناك سلعة تباع في السوق الخارجى بمبلغ 100 دولار:

إذا قام المستورد المحلى بشراء هذه السلعة من الخارج فأه سيدفع مقابلها 200 جنيه في حالة سعر الصرف المضخم، ولكن سيدفع 400 جنيه لو ساد سعر الصرف الحر في السوق

ولكن لو قام المصدر الوطنى ببيع سلعة قيمتها في السوق الخارجى 100 دولار، فإنه سيحصل مقابلا لها 200 في ظل سعر الصرف المضخم، في حين أن حصيلة صادراته ستصل إلى 400 جنيه في حالة السعر الحر.

 وهذا المثال يعطى في الواقع حقيقة ذات دلالة عامة، وهى أن ارتفاع سعر العملة الوطنية عن سعرها الذى يمكن أن يسود في ظل السوق الحرة (وهو الذى يعرف بتضخم سعر العملة الوطنية) يمثل تحيزا ضد الصادرات، لأنه سيقلل في واقع الأمر من حصيلة الصادرات للمصدرين الوطنيين، وهو تحيز ضد كافة نوعيات التصدير، صناعية أو غير صناعية. هذا في حين أنه يعمل في صالح الاستيراد نتيجة انخفاض مدفوعات الواردات.

ثانياً: أما العامل الثانى للتحيز ضد صادرات السلع الصناعية على وجه الخصوص فهو ما أشرنا إليه سابقا من انخفاض كفاءة القطاع الصناعي في ظل استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات. فالواقع أن تجارب الحماية الزائدة للقطاع الصناعي في البلدان النامية والتى امتدت لعقود طويلة قد أظهرت ارتفاع أسعار السلع الصناعية الخاضعة للحماية الزائدة وانخفاض جودتها.ثم أن ضيق السوق في الكثير من البلدان النامية كان عقبة أما الوصول إلى الطاقة الإنتاجية القصوى أو الوحدات الإنتاجية ذات الحجم الاقتصادى الأمثل. الأمر الذى أدى إلى ارتفاع التكاليف لوجود طاقات إنتاجية عاطلة أو صعوبة تحقيق الحجم الأدنى للوحدة الاقتصادية.وبالطبع فإن تكلفة الإنتاج المرتفعة وانخفاض جودة المنتجات لم يكن ليسمح بطبيعة الحال بالولوج إلى الأسواق العالمية. ناهيك عن افتقار البلدان النامية للخبرات التسويقية المتعلقة بالمنافذ العالمية، والتى لم تكن تجدى فتيلاً على أى حال مع سلع صناعية بهذه المواصفات.

ج) استبدال الواردات والنقد الأجنبى

أدى انخفاض نمو الصادرات الزراعية والأولية، مع عدم وجود صادرات معوضة من السلع الصناعية في ظل هذه الاستراتيجية ذات الوجهة الداخلية إلى عدم حصول البلدان النامية على النقد الأجنبى الكافى. والغريب أن هذه الاستراتيجية التي استهدفت في البداية خفض الواردات وبالتالى الاقتصاد في النقد الأجنبى قد أتت بعكس المطلوب. حقا صاحب هذه الاستراتيجية في البداية بعض الخفض في معدل الاستيراد، ولكن هذا الأمر لم يدم طويلا. فالواقع أن إنتاج السلع الاستهلاكية التي كانت تستورد سلفا يؤدى بشكل مباشر إلى وفر في النقد الأجنبى – ولكن إنتاج هذه السلع قد احتاج إلى استيراد المواد الخام والمواد الوسيطة والسلع الرأسمالية اللازمة لهذا الإنتاج الاستهلاكى. وبدلاً ممن أن تنخفض الواردات زادت الواردات الكلية مع تغير هيكلها من واردات استهلاكية إلى واردات وسيطة ورأسمالية. هذا بالإضافة إلى واردات المواد الغذائية والتى ازدادت نتيجة تخلف القطاع الزراعي في ظل هذه الاستراتيجية.

وبالتالى أدت هذه الاستراتيجية إلى زيادة التبعية للعالم الخارجى ليس فقط لزيادة الواردات بل لتغير طبيعتها. فالتبعية في الحالة الأولى – حالة استيراد السلع الاستهلاكية- كانت مقصورة على جانب الاستهلاك فحسب. أ/ا الآن، مع زيادة استيراد السلع الوسيطة والسلع الرأسمالية، يصبح الإنتاج والدخل والعمالة في موقف التبعية للعالم الخارجى.

لماذا لم يؤدِ التصنيع باستبدال الواردات إلى تعميق التصنيع المحلى؟

كان للحماية المرتفعة التي تعمل خلفها الصناعات المستبدلة للواردات آثار واضحة على سلوك المنشآت في هذه الصناعات. لقد كان من مصلحة رجال الصناعة في الواقع السير إلى أبعد شوط في ممارسة الضغوط الإدارية والسياسية لاستمرار الحماية الجمركية لمنتجاتهم. وكان المستفيد الأول من ذلك صناعات تتميز على نحو ما رأينا بانخفاض الكفاءة الصناعية وارتفاع تكلفة التشغيل نتيجة صغر حجم العمليات التي يفرضها ضيق السوق المحلى. وإن كان هذا لا يمنع أن الحماية قد حققت أرباحا طائلة لرجال الصناعة المحليين.

وهناك على الأقل نتيجتان سلبيتان من جراء ذلك.فمن ناحية نجد أن إنتاج السلع الصناعية بغرض التصدير قد لاقى على نحو ما رأينا تثبيطا هائلا. فالواقع أن العائد الاقتصادى الذى توجه للمنتجين الذين يبيعون في السوق المحلى كان إلى مدة بعيد أكبر من العائد على سلع التصدير والتى لا يمكن بيعها إلا بالأسعار التنافسية العالمية (ونضيف إلى ذلك أثر تضخم سعر العملة الذى نوهنا إليه وإلى ضعف الفرص التصديرية للمنتجات المحلية لاعتبارات الجودة).

ومن ناحية أخرى أدت معدلات الحماية المرتفعة التي سجلتها البلدان النامية إلى أشكال غير متوقعة من السلوك من قبل رجال الصناعة والتى لم تتوافق البتة مع الأهداف المقصودة من التصنيع باستبدال الواردات. فالواقع أن رجال الصناعة الذين استفادوا من هذه الأرباح الجمة في أسواق تظللها الحماية لم يكونوا على استعداد لتشجيع أى توسع في الإنتاج المحلى من المواد الوسيطة أو المعدات الرأسمالية أو غيرها من مستلزمات الإنتاج الخاصة بهم. وبالتالى فقد كان هناك عوائق أمام تعميق التصنيع المحلى بالامتداد إلى الصناعات الخلفية، أى الصناعات الموردة. لماذا؟

إن المسلك المتبع مع استراتيجية التصنيع باستبدال الواردات هو حماية المنتج النهائى والسماح باستيراد مستلزمات الإنتاج معفاة من الرسوم أو مع رسوم أقل في معدلاتها من الرسوم على المنتجات النهائية. وقدرة رجال الأعمال على تحقيق أرباح من الحماية تتوقف بالطبع على وجود فارق كبير في معدلات الحماية على منتجاتهم ومعدلات الحماية على مستلزماتهم الصناعية المستوردة.

وبالتالى فقد كان لهم مصالح راسخة في تثبيط إنشاء أى صناعة محلية توفر لهم مستلزمات الإنتاج. إن إنشاء مثل هذه الصناعة بمنطق التصنيع باستبدال الواردات سيصاحبه زيادة الحماية الجمركية، وهو ما يؤدى إلى ارتفاع التكلفة بالنسبة لرجال الصناعة في مرحلة المنتج النهائى. بالإضافة بالطبع إلى أن الجودة والدقة المطلوبة في السلع الوسيطة أو السلع الرأسمالية ستعانى من منظور الجودة والتكاليف ما تعانى منه كقاعدة عامة المنتجات التي تحل محل الواردات.

ثانيا: التصنيع ذو الوجهة الخارجية:

 استراتيجيات التصنيع التصديرى

رأينا أن هناك تحيزا واضحا في غير صالح التصدير في ظل استراتيجيات التصنيع باستبدال الواردات. ومع استراتيجية التصنيع التصديرى يتم إزالة هذا التحيز ضد قطاع التصدير، بل يتم تدعيم التصدير بسياسات وحوافز متعددة.ومن أهم الأمثلة الناجحة لاستراتيجية التصنيع ذى الوجهة الخارجية تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونج كونج.

وفى بعض الأحيان قد تكون استراتيجية التصنيع التصديرى امتداداً طبيعياً لاستراتيجية التصنيع باستبدال الواردات. فإذا أمكن للصناعة المحلية أن تتعلم كيف تنتج بكفاءة للسوق المحلى فقد ينتهى بها الأمر إلى القدرة على المنافسة في الأسواق العالمية.ولقد كان هذا هو الطريق الذى سلكته ألمانيا في الماضى واليابان في وقت حديث نسبيا، ثم كوريا الجنوبية وتايوان بعد ذلك.ومن المعروف أن بعض البلدان النامية الرائدة في التصنيع المتوجه نحو التصدير قد انتهجت سياسات حمائية للتصنيع ذى الوجهة الداخلية قبل تحولهم للتصنيع التصديرى.

الصادرات الصناعية للبلدان النامية وفكرة مراحل المزايا المقارنة

1) معنى مراحل المزايا المقارنة

تبدأ البلد النامية عادة بتصدير سلع الطابع الغالب عليها أنها كثيفة للعمل نسبياً، وتتضمن تكنولوجيا ناضجة mature (أى منتجات أصبحا التكنولوجيا الخاصة بها معروفة ونمطية). وهذه الصادرات تتمثل في سلع لا تتضمن تغيرات كثيرة في المواصفات المتعددة للسلع. ومن أمثلة ذلك الصادرات التقليدية للبلدان النامية، كالمنسوجات والملابس القطنية والأحذية والأجهزة المنزلية.

ويحاول البعض ربط تطور نمط الصادرات الصناعية للبلدان النامية بفكرة مراحل المزايا المقارنة (أو نظرية الإوز الطائر flying geese كما تسمى في بعض الأحيان). وفكرة المراحل هذه تعنى انتقال البلدان عبر سلم المزايا المقارنة من إنتاج وتصدير السلع التقليدية عالية الكثافة العمالية، إلى السلع التي تحتاج لمهارات عالية للعمل، إلى السلع التي تحتاج إلى كثافة رأسمالية عالية، وأخير إلى أعلى مرحلة وهى السلع ذات الكثافة العالية في التكنولوجيا ورأس المال البشرى والمعرفة الفنية. ويتم هذا التطور للبلد النامى عبر مراحل المزايا المقارنة مع اكتساب عناصر الإنتاج (العمل) للمران والتدريب، ومع تجميع رأس المال، وتطوير القدرات التكنولوجية المحلية،….الخ.

ولقد حاولت فكرة مراحل المزايا المقارنة التصدى للرأى القائل بأن الصادرات الصناعية للبلدان النامية ستواجه بقيود على الطلب، خاصة في أسواق البلدان المتقدمة. وتصور هذه النظرية هو توالى البلدان النامية في أفواج متتابعة على سلم المزايا المقارنة , وأن كل فوج سيفسح الطريق للأفواج السابقة. فالبلدان النامية الأولى في ولوج الأسواق الخارجية للسلع الصناعية (الفوج الأول)، ستبدأ عند الدرجات الأولى من السلم بتصدير السلع عالية الكثافة لعنصر العمل غير الماهر. ولكن بمرور الوقت، وباكتساب الخبرة والمهارات وتكوير القدرات التكنولوجية والإدارية، تتدرج في سلم المزايا المقارنة بالانتقال إلى السلع التي تحتاج إلى درجات أعلى من القدرات. وبهذه الكيفية تخلى الطريق أما الصادرات الصناعية التقليدية ” لفوج”جديد من البلدان النامية. وبالتالى فمع صعود البلدان النامية على سلم المزايا المقارنة- حسب منطق نظرية المراحل – ستحل صادرات أفواج من هذه البلدان محل الأفواج التي سبقتها.

2) الشواهد العملية

منطق نظرية المراحل هو أن تتحول المزايا المقارنة في بلد ما من نمط للتخصص إلى نمط أعلى وبصورة مستمرة. فقد أدت جهود التصنيع في البلدان النامية في واقع الأمر إلى تحول المزايا المقارنة في بعض البلدان من المواد الأولية إلى السلع المصنعة، وفى داخل السلع المصنعة من السلع الكثيفة للعمل إلى السلع الكثيفة لرأس المال والمهارة. ونأخذ على هذا التحول أمثلة من بعض الشواهد العملية.

والتحول في الاقتصاد اليابانى هو المثال الأول.فقد شهد الاقتصاد الصناعي اليابانى تحولات متتابعة منذ منتصف القرن الماضى،صاحبها ارتقاء في المزايا المقارنة للصناعة اليابانية. ففى السنوات الخمسين من القرن الماضى تحولت الصناعة اليابانية من الاعتماد بدرجة كبيرة على النسيج وغيره من الأنشطة ذات الكثافة العمالية العالية إلى تصنيع المواد الخام والمنتجات ذات الكثافة الرأسمالية، مثل صناعة الصلب وبناء السفن. وفى السنوات الستين خطت الصناعة اليابانية نحو صناعة السيارات وهى صناعة كثيفة لرأس المال والآلات، وكذلك صناعة الأجهزة والمنتجات الإلكترونية الاستهلاكية (مثل أجهزة الراديو والستريو والتلفزيون..). أما في السنوات السبعين فقد حظيت المنتجات الإلكترونية الإنتاجية ذات التكنولوجيا العالية محل الاهتمام الأكبر. وفى السنوات الثمانين احتلت مركز الصدارة الأنشطة ذات الكثافة العلمية العالية، مثل التكنولوجيا الحيوية والسيراميك للأغراض الصناعية والجيل الخامس من الآلات الحاسبة الإلكترونية.

ولا شك أن هذه المراحل المختلفة من التغير الصناعي تعكس الارتقاء في سلم المزايا المقارنة للصناعة اليابانية.وبهذا الارتقاء تكون الصناعة اليابانية قد أفسحت الطريق أمام أفواج متتابعة من البلدان النامية (والتى يأتى على رأسها بالطبع البلدان النامية حديثة التصنيع) بما يتمشى مع منطق مراحل المزايا المقارنة.

وحيث أنه من الأيسر على البلدان النامية اكتساب المزايا المقارنة أولا في مجال الأنشطة عالية الكثافة للعمل منخفضة الكثافة لرأس المال مثل المنسوجات والملابس والأحذية، فقد بدأت كوريا الجنوبية وتايوان في أوائل الستينات في إجراء الخطوات اللازمة في هذا الاتجاه. ولقد ساهمت هذه السياسة بالإضافة إلى تحقيق مزايا تنافسية في الأسعار في هذه المنتجات في خلق مجمع للعمالة المدرية ومديرى المشروعات. ومع نضج هذه الصناعات أصبحت قادرة على المنافسة العالمية، الأمر الذى مهد الطريق للولوج بعد ذلك في مجال الأنشطة الصناعية الأكثر كثافة لرأس المال في أخريات الستينات وأوائل السبعينات.

مراحل التحول في المزايا المقارنة للصناعة الكورية

المرحلة الصناعات
1 المنسوجات – الملابس – الأحذية
2 تجميع الإلكترونيات – صناعة السفن –الأسمدة – الصلب
3 تجميع السيارات – الإلكترونيات الاستهلاكية -الصلب المخصوص – السلع الدقيقة والساعات والكاميرات
4 أجزاء السيارات – العدد الآلية – تجميع الآلات الكهربائية الثقيلة – أشباه الموصلات

ويوضح الجدول السابق أربع مراحل للانتقال في سلم المزايا المقارنة للصناعة الكورية، وهى المراحل التي حققت فيها الصناعة الكروية القدرة على المنافسة الدولية. فبعد الغزل والنسيج (فى الفترة 1961 – 1966)، استطاعت الصناعة الكورية في أخريات السنوات السبعين أن تصبح منافسا عالميا في مجال الإلكترونيات وصناعة السفن وصناعة الأسمدة. ومع أوائل السنوات الثمانين كانت صناعة تجميع السيارات والإلكترونيات الاستهلاكية والصلب المخصوص والسلع الدقيقة قد لحقت بمجموعة الصناعات التي ترسخت أقدامها بعد مرورها بمرحلة الصناعة التنافسية.

والأمثلة السابقة تقدم شواهد على انتقال البلد الواحد في سلم المزايات المقارنة. ولكن ربما كان من الأجدى أن نتعرف إلى أى مدى شهد النجاح التصديرى للبلدان النامية المعروفة “بالبلدان النامية حديثة التصنيع” NIC أفواجا لاحقة من البلدان النامية الأخرى.ذلك أن أحد الدعامات الرئيسية لنظرية مراحل المزايا المقارنة هو أن نشهد على الساحة فوج آخر من البلدان النامية الذى أقتفى أثر البلدان النامية حديثة التصنيع. الواقع أن هناك بعض الشواهد القوية على وجود الفوج الثانى من المصدرين الناجحين والتى تشمل بلادا مثل إندونيسيا وماليزيا والفلبين وغيرها، والتى تسمى عادة “الصف الثاني”second-tiersمن البلدان النامية حديثة التصنيع. ويبدو بناءً على ذلك أن بعض البلدان النامية قد بدأت تسلك المسار الذى بدأته البلدان النامية حديثة التصنيع، وأن ترتقى بهيكل الصناعة من الصادرات التقليدية للسلع كثيفة العمل إلى السلع الأكثر تطوراً.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق